ألقى الأستاذ إبراهيم البليهي محاضرة في جامعة اليمامة الأسبوع الماضي عن موضوعه الأثير الذي لا يبارحه، وهو محاولة إثبات أن العرب لم يكونوا شيئا مذكورا إلا بعد اختلاطهم بالحضارات الأخرى، وأن الشعوب الهندية والفارسية وغيرهم قد منحوا الأمة العربية ميكانيزم التفوق والنبوغ والإنجاز، وأن الحضارة العربية قامت على الترجمات من الإغريق واليونان وغيرهم، وقد نهض الغرب بعد أن استكملت الحضارة العربية دورتها ووصلت إلى الذروة بتأثير ذلك التواصل، وشقت الشعوب الغربية طريقها لاحقا بالوقوف مباشرة على أسس التقدم في الفكر اليوناني القديم - كما يرى البليهي - دون أن يحدث من الغربيين تعريج أو إفادة من المنجز العربي في ميادين الطب أو الفلسفة أو الفنون وغيرها!.
يريد أن يؤكد المحاضر : أن العرب لا يمكنهم أن يصنعوا حضارة لوحدهم، وأنهم قبل الاختلاط بغيرهم لم يستطيعوا أن يصنعوا لهم كيانا ولا أن يبنوا لهم أمجاداً!.
ثم يريد أن يقول : إنه لا فضل للحضارة العربية على الحضارة الغربية، بل إن الغرب رجعوا إلى أصول الحضارات الأوروبية القديمة وأعادوا إحياءها من جديد، دون أن يمروا ولو مرورا سريعا على ما يدعى - حسب قوله - أنه إنجاز حضاري عربي إسلامي!.
ومن الطبعي أن تثير هذه المقولات حفيظات نفر من الحاضرين، كما أثارت من قبل غيرهم؛ فأقدم الدكتور ابن الحارث أحد أساتذة الجامعة من الجنسية الجزائرية على إبداء اعتراضه الشديد والحاد على هذه الأفكار، وسعى خلال مداخلته إلى نقضها، وذهب إلى التدليل على تأثير الحضارة الإسلامية في بناء أوروبا الجديدة من خلال التواصل العميق مع الحضارة العربية الإسلامية في الأندلس بحكم القرب الجغرافي.
وكان رد البليهي حادا رافضا فكرة الدكتور ابن الحارث، ومستهجنا تصفيق جمهرة كبيرة من الطلاب الحاضرين بعد مداخلته، ومفسرا ذلك بأنه دغدغة لمشاعرهم، دون أن يخاطب عقولهم، وأن الاستسلام للموروث من الأحكام على الحضارات والمراحل التاريخية هو لون من الخدر الذهني أو صفة من صفات فكر العجائز!.
ثم انفض الطلاب جميعا مغادرين قاعة المحاضرة وتاركين محاضرهم وحده، في أسلوب احتجاج عنيف وغريب عجيب، وهنا موضع توقفي وغايتي من سرد هذه الحكاية المؤسفة في فن الحوار والتعاطي مع المختلف.
فمن حق الأستاذ إبراهيم البليهي أن يقول وينظر ويدلل ويسعى إلى إثبات ما يذهب إليه بالبراهين والآثار القولية لمفكرين وباحثين، وبتطور المراحل التاريخية في فصول بناء الحضارة الغربية، ومن حق أي من الأساتذة أو الطلاب الحاضرين الاعتراض وإبداء التساؤلات الرافضة والحادة؛ فمن النقاش ينبثق النور كما يقول أرسطو رائد الفكر العقلي عند الغربيين الذين يحترمهم ويجلهم البليهي كما يجلهم من يقدر ويحترم نتاج هذه الحضارة المبهر في العلوم الطبية والزراعية والفضاء والاتصال والمعمار وغير ذلك.
وأمام هذه البدهيات التي لا يختلف عليها عقلاء المفكرين والباحثين لم يكن أبداً حرياً بالأستاذ المحاضر ما أظهره من انفعال شديد تجاه فكر مناقشه ابن الحارث، ولم يكن من اللائق مهاجمة أفكاره أو تسفيهها، ثم لم يكن أيضاً من حسن سيرة استماع الطلاب وأدبهم، وهم في جامعة طليعية حديثة تؤسس وتؤصل فن الحوار وتؤمن بالتعدد الفكري، أن ينفضوا عن محاضرهم؛ احتجاجا، ويدعوه وقاعته ومنصته وأفكاره وحده، متضامنين مع أستاذهم ومدافعين عنه بالرحيل معه تاركين القاعة خاوية!.
إن نحن مضينا في هذا الطريق : نضع في أذن طيناً وفي أذن عجيناً، ولا ننصت باحترام لمن نختلف معه؛ فمتى نتعلم من غيرنا أو نضيف إلى أفكارنا فكراً جديداً؟! متى يمكن أن نجسر الهوة بين من نختلف معه ونحن نرحل عنه وندعه يحاور نفسه؟!.
إن هذا الانفضاض الهادئ والتصفيق الحاد أمر دبر بليل، إنه انسحاب مبيت لإسقاط أية رؤية جديدة مختلفة، فمعركة المسرح القديمة الصاخبة في القاعة نفسها تتكرر بصورة أكثر هدوءاً وأوعى تخطيطاً وترتيباً!.