لا أخفيكم.. حين أحضر مناقشة رسالة علمية في أي جامعة سعودية سواء أكانت رسالة ماجستير أو دكتوراه يلح في ذهني سؤال مهم.. يتعاظم ويكبر مع حضور كل مناقشة.. وهو: كم نسبة الرسائل العلمية التي تُرفض من قبل المناقشين على مستوى جامعاتنا في العام الجامعي الواحد؟ بمعنى هل هناك إحصائية دقيقة لعدد رسائل الماجستير والدكتوراه التي لا تجاز من المناقشين؟
تلك التي ينبغي على الطالب حينها أن يُعيد كتابة رسالته، متلافياً الأخطاء العلمية الواضحة، والمخالفات المنهجية الفاضحة التي وقع فيها، فأفسدت الرسالة، وجعلت المناقش لا يقبل إجازتها، ويقرر عدم قبولها، وعدم منح الطالب الذي أعدها الدرجة العلمية المقصودة.
إنَّ القسمة المنطقية لنتيجة مناقشة الرسالة العلمية لا تخرج عن ثلاث حالات؛ الأولى: أن تجاز الرسالة دون أن يطلب من الطالب عمل تعديلات، الثانية: أن تجاز الرسالة بشرط؛ أن يقوم الطالب بالتعديلات التي قرَّرها المحكمون في جلسة المناقشة، أما الثالثة: فهي أن ترد الرسالة على صاحبها، ولا تقبل منه؛ لأنها لم تكن على المستوى المعقول فضلاً عن المأمول، بما فيها من إخلالٍ للأمانة العلمية، أو ضعفٍ واضحٍ في التناول والمعالجة، أو حشد للنقول دون تقديم جديد يُذكر، أو عدم ظهور شخصية الباحث في رسالته لضعفه اللغوي والعلمي، أو غيرها من الإخفاقات التي يقع فيها الطالب، وتكون سبباً علميا ونظاميا في عدم قبول رسالته.
والعجيب أنني خلال حضوري المناقشات العلمية في كثير من الجامعات لاحظتُ أن معظم نتائج المناقشات تنتهي بالحالة الأولى، بل يزاد في النتيجة أن يحصل الطالب على مرتبة الشرف الأولى، بل التوصية بطباعة الرسالة، فضلاً عن كيل المدائح والثناء الذي يضفيه المناقشون عليها، وقليلٌ منها تنتهي بالحالة الثانية، أما الحالة الثالثة فلم أصادفها إطلاقا، واعتقدتُ في البداية أنَّ الأمر ربما كان مجرد مصادفة، لذا فقد حاولتُ التأكد من هذا الأمر قدر الإمكان، وسألتُ كثيراً من الزملاء في عدد من الجامعات إن كانت هذه الحالة قد مرَّت بهم، فلم يذكر لي أحد منهم أنه حضر مناقشة انتهت بها، بل إنَّ بعضهم تعجب من سؤالي، وكأنه ينكر وجود هذه الحالة أو يسمع بها لأول مرة.
والسؤال الذي يحضر بعد هذا: علام يدل انتفاء وجود هذه الحالة؟.. وإلى أي شيء يشير؟.. وهل يُفهم من ذلك أنَّ جميع رسائلنا العلمية التي يُقدِّمها الطلاب في مختلف التخصصات وعلى مستوى الجامعات كلها قد بلغت درجة عالية مأمولة من الإتقان والجودة والفائدة العلمية والضبط المنهجي؟.. وإذا لم يكن كلها فمعظمها كذلك؟.. والمتبقي منها هو ذلك الذي تقبله لجنة المناقشة غير أنها تشترط على الطالب إجراء بعض التعديلات التي أخلَّت بالرسالة، حتى يمكن منحه الدرجة رسميا، وهنا يطل سؤال آخر: هل يقوم الطالب بإجراء التعديلات حقاً؟.. وإن زعم إجراءها فمن المسؤول عن متابعتها والتأكد من زعمه؟.. وهل يمكن أن يمنح الدرجة العلمية دون أن يجري هذه التعديلات التي أقر المناقشون وجوب القيام بها بوصفها شرطاً من شروط إجازة الرسالة ومنح الدرجة؟.
إنه لمن المؤسف حقاً أن تصبح مناقشة الرسائل العلمية أشبه بإجراء إداري روتيني كغيره من الإجراءات الإدارية التقليدية التي تمر بها الرسالة العلمية إلى حين حصول مُعدِّها على الدرجة العلمية، ومن المؤسف أيضاً أن يصل حدَّ الاستهتار ببعض الباحثين إلى أنه يكون واثقاً في أنه سيمنح الدرجة حتى لو كان ما يُقدِّمه في رسالته لا يساوي الورق الذي كتب به.
ولذا فلا أستغرب حين أرى الباحث يتلقَّى التهاني والتبريكات على حصوله على الدرجة بمجرد أن ينتهي منها، لأنه يثق تماماً من خلال خبرته وحضوره للمناقشات أنه ليس أمامه سوى مجرد وقت لكي يُمنح إياها، وأنَّ المناقشة التي ستُعقد له ليست سوى إجراء عادي كما يجري في بقية الوزارات والمؤسسات الحكومية، فالقضية مسألة وقت ليس إلا، ولعل هذا الأمر هو ما دعا كثيراً من الأكاديميين والمهتمين بالبحث العلمي يحجمون عن حضور مثل هذه المناقشات التي تشبه مباراة كرة قدم أقيمت بالأمس وأعيدت أحداثها اليوم، فما أسباب ذلك؟ ولماذا وصل الأمر إلى هذا الحد؟ ومن المسؤول عن هذه الملامح الضعيفة الهزيلة التي بات تتصف بها المناقشات؟.. وما أثر ذلك على البحث العلمي في جامعاتنا؟.. هذا ما سأحاول أن أكشف عنه في الجزء الثاني من هذه المقالة.