في حديث هاتفي عابر جرى قبل شهرين تقريبا بيني وبين أخي علي المفضي لاحظ علي أنني أردد مصطلح (الشعر النبطي) وسألني ربما من باب التحفيز أو من باب استجلاء عقيدتي حول هذا المصطلح: لماذا لا تسميه (الشعبي) أو (العامي) أو غيرها من التسميات؟ فقلت له وقتها بل هو (الشعر النبطي), فقال: لماذا؟ فأجبته بإجابة الكسائي لمروان بن سعيد عندما سأله لماذا لا يجوز أن يقال «ضربت أيَّهم في الدار» حيث قال: هكذا خُلقت! وأنا أقصد أن هذا النوع من الشعر بهذا الاسم عرفناه.
والحق أن قضية تسمية (الشعر النبطي) دارت حولها رحى نقاشات وصراعات ثقافية عديدة لعدة سنوات بين عدد من كبار الباحثين والكتاب المختصين بهذا النوع من الشعر، وبدأت منذ أكثر من ثلث قرن. وقد حرر تلك الرؤى الشيخ أبوعبدالرحمن بن عقيل, ولخصها وناقشها في مقدمته للأجزاء الأول والثاني والرابع من كتابه القيّم (ديوان الشعر العامي بلهجة أهل نجد) وطرح رأيه الخاص في هذه المسألة.
ثم جاء الدكتور سعد الصويان وكتب مبحثا شاملا حول هذه القضية في كتابه القيّم (الشعر النبطي: ذائقة الشعب وسلطة النص) سأعتمد عليه فيما أريد قوله في هذه القضية التي صارت في ذمة التاريخ, وقبل الدخول في الموضوع أريد أن أقول: إني لا أعرف الغاية من هذا، تعريف الدكتور سعد الصويان لعنوان كتابه هذا (الشعر النبطي) بعبارة (ذائقة الشعب وسلطة النص) وهو لم يذكرها, فهل هذا التعريف نوع من الاستعراض والترهيب الثقافي لجمهور الشعر النبطي، خصوصا أن أغلبهم من أنصاف المثقفين أو أرباعهم أو أعشارهم؟ أو أن المؤلف أراد به إخراج الكتاب من دائرة الضيق المحلية إلى دائرة الاتساع الدولية ليلفت به نظر المثقفين في الداخل والخارج من غير المهتمين بالشعر النبطي وغيره من الآداب العامية, وليغري رائيه بالاطلاع عليه على سبيل التسويق الفكري؟ ربما كان هذا الأخير هو الداعي إلى جلب هذه العبارة البراقة, واختيار دار الساقي في لندن لنشره, وهي من الدور التي اهتمت بنشر الكتب المثيرة في الشأن الفكري والاجتماعي والأدبي حتىارتبط في أذهان البعض أنها من دور النخبة, يدعم هذا الافتراض, وربما هناك مبررات أخرى منطقية لدى المؤلف لا نعلمها.
وعلى العموم فإن هذا التعريف - في رأيي - لا يوضح المحتوى بصورة مباشرة, فالكتاب مجموعة من البحوث الأدبية والنقدية والتاريخية حول الشعر النبطي بلا مقدمة ولا خاتمة.
عقد الصويان لتسمية الشعر النبطي فصلا عنونه بـ(المسمى والنشأة) ووضع له أربعة عناوين جانبية, وفي هذه التسمية خطأ لغوي شائع لم يتنبه إليه الدكتور ربما لشيوعه, فقد استخدم كلمة (المسمى) وهو يريد (الاسم), والغريب أنه يقول في التقديم (حينما نتحدث عن المسميات ينبغي لنا الاحتراز من الخلط بين الاسم وذات المسمى), واستمر في استخدام هذه الكلمة بهذا المعنى في ثنايا بحثه هذا.
وحصر الدكتور سعد أهم الآراء والمناقشات التي جرت في هذه القضية سواء على صفحات الجرائد والمجلات أو في بطون الكتب, وعرضها وناقشها بمنهجية علمية, وذكر رأيه فيها وفي القضية عموما.
وأفصحت مناقشاته عن إلمام وخبرة وإحاطة وسعة اطلاع سواء على المستوى المحلي أو العربي أو العالمي.
ولعل من أهم ما ورد في ذلك البحث الممتع التأكيد على أن مصطلح (الشعر النبطي) هو الاسم الرسمي الذي تعارف عليه أهل الشأن منذ القدم, قال: (كل الدلائل تفيد أن المسمى «نبطي» صُكَّ «قلت: يقصد سُكّ» ونُحت داخل الجزيرة العربية من قبل علمائها ونساخها, وكان استخدامه شائعا بينهم، وكأنهم تواضعوا عليه فيما بينهم).
ثم أشار إلى أن الشيخ ابن بليهد هو أول من روّج لهذا الاسم «نبطي» في إشاراته العديدة لهذا الشعر في كتابه «صحيح الأخبار عما في بلاد العرب من الآثار», وأنه أول من حاول من علمائنا المتأخرين أن يبحث في معنى كلمة «نبطي» ويبين المقصود بالتسمية, لكنه قدم تعريفا خاطئا له (إذ توهم في تعريفه لكلمة نبطي أن المقصود بها نسبة هذا الشعر إلى الأنباط ولم يخطر في باله أن المقصود منها أن لغته عامية) وعلى الرغم من إدراكه العميق لما بين الشعر العربي والشعر النبطي من تشابه وتشابك ظهر في مقارنات عقدها بينهما إلا أنه (لم يستدل من هذا التشابه إلى أي علاقة نسب بينهما وإنما عزاه إلى تشابه بيئة الأنباط مع بيئة العرب وإلى ما حدث بين هذين الجنسين من احتكاك واتصال) ثم يقول الدكتور سعد بعد ذلك (ونتيجة الفهم الخاطئ لمعنى الاسم حاول ابن بليهد اعتساف علاقة تاريخية ولغوية وأدبية بين الشعر النبطي والأنباط.
وهذا مما أساء إلى الاسم وإلى المسمى إساءة بالغة).
ولذلك يرى الدكتور سعد أن هذا الاتجاه الخاطئ الذي سنه ابن بليهد في تعريف معنى كلمة (نبطي) كان سببا رئيسا لرفض الكثيرين لهذا الشعر وزهدهم به والترفع عن الاطلاع عليه ومحاولة فهمه ظنا منهم أنه يرتد بجذوره اللغوية إلى الأنباط.
ثم يستقصي الدكتور الصويان مسائل الخلاف في التسمية, وتوجهات رواد هذا النوع من الأدب, مثل خالد الفرج الذي يرى أنه (يتأرجح في رأيه بين موقف ابن خلدون الذي لا يشك في صلة الشعر البدوي بشعر العرب القدماء وبين موقف ابن بليهد الذي يصله بالأنباط). وقد ذكر الفرج تفسيره لكلمة (النبطي) في مقدمة كتابه (ديوان النبط: مجموعة من الشعر العامي في نجد).
يتبع