تحدثنا في الحلقة السابقة عن ظاهرة (التفاصح) في الشعر النبطي, وناقشنا معناها وجذورها وعرضنا نموذجا لشعر محسن الهزاني المتفاصح .. ونواصل الحديث في (ظاهرة التفاصح .. في الشعر النبطي) فنقول:
ومثل الهزاني الشاعر بديوي الوقداني (1296هـ), فله شعر فصيح كثير, لكنه يختلف عن الهزاني في أنه أكثر إجادة للفصيح, فهو متعلم مطلع, ولعل لبيئته القريبة من منارة العلم (مكة المكرمة) دوراً في ذلك, ويقال إن الدكتور طه حسين قال في شعره عندما عُرض عليه كلاما انطباعيا إيجابيا. وبديوي له شعر فصيح جيد, كقوله من قصيدة جميلة:
الملكُ للهِ والدنيا مداولةٌ
وما لِحَيٍّ على الأيام تخليدُ
وإن كان يفوته النحو أحيانا كقوله:
أحمامة الوادي بشرقي الغضا
مالي أراك حزينة (لا تهجعي)
حيث حذف النون من (تهجعين) بلا موجب سوى الضرورة الشعرية, وهي ضرورة قبيحة هنا. أما قوله:
المال يحيي ارجالٍ لا طباخ اِبْها
كالسيل يحيى الهشيم الدمدم البالي
فهو (تضمين) محوَّر إلى العامية من بيت حسان رضي الله عنه:
المال يغشى رجالا لا طباخ بهم
كالسيل يغشى أصول الدِّنْدِنِ البالي
ومن تفاصح الشعراء النبطيين قول شيخ الرواة وأصمعي النبط, المرحوم عبدالرحمن الربيعي (ت1402هـ) في تقديم مخطوطاته الشهيرة:
فيا سائلا عن دفتري أن أعيره
وأكشف سري بعد طول اختبائه
تسمَّعْ هداك الله قولي وخذ به
فإنه قولٌ لم أفُهْ بسوائه
فوالله ما يظهرْ مُعارًا لواحد
فكُفَّ الهوى عن أخذه وعطائه
وقوله:
فيا سائلا عن دفتري ما الذي به
من الشعر قلت الدر في قول كاتبه
عُبَيْدٌ لرحمان تولى لنسخه
وألَّفَ من قول القدامى أطايبه
وفيه من الأمثال ما دل حايرا
ورشاد من ظلت بقفر ركايبه
إلخ
والتفاصح وطغيان العامية على هذه الأبيات لا يخفى, وشاعرية الربيعي رحمه الله وسعة اطلاعه وخبرته العميقة بالشعر النبطي, وهو الذي كتب وحفظ دواوين أكثر من خمسين شاعرا, ويعد المرجع الوحيد لشعر ابن شريم (ت1363هـ) وابن دويرج (1356هـ) وانفرد برواية عدد من قصائد ابن لعبون .. كل ذلك لم يؤهله لأن يأتي بشعر فصيح خال من آفة التفاصح. ويلاحظ أن الشطر الثاني من البيت الثالث في المقطوعة الأخيرة مكسور ولا يستقيم إلا بتعديل (ورشاد) إلى و(إرشاد).
وممن زاوج بين الفصيح والعامي في الشعر من شعراء اليوم الشاعر ناصر الفراعنة, فله عدد من القصائد الفصيحة نهج فيها أسلوباً يعتمد في غالبه على توظيف الغريب من الألفاظ. وإذا كانت قصائده الفصيحة تطرب أهل النبط فإنها لا تلفت انتباه أهل الفصحى بتلك الدرجة.
والفراعنه في شعره النبطي والفصيح من ذوي النفس الطويل في القصيد, وطول القصيدة ليس مؤشرا على الشاعرية, لأن المعنى يقال في بيت خير منه في اثنين أو ثلاثة أو أكثر, وربما انحصر تلذذ السامع بطول القصيدة على الجانب الموسيقي فيها دون المعاني والصور والأساليب, بدليل أنه لا يجد تلك المتعة بقراءتها كما يجدها في سماعها.
ومن شعره المتفاصح قصيدته (ملوك الجن), وهي قصيدة طويلة تشبه الملحمة وتدور حول محور الفخر سواء أكان فردياً أم جماعياً, وتعتمد على ترميز غير واضح حتى للمتأمل! وفي كل مناسبة يلقيها يغير في ألفاظها وفي ترتيبها ويحذف منها تارة ويزيد أخرى, وكل هذا يدل على أن القصيدة مجرد موسيقى وظاهرة صوتية.. وسأورد هنا بعض ما ورد فيها من تفاصح مكتفياً ببعض الأبيات, مثل قوله:
ألفي عزيز من أعزة عامر
رضيوا حياة الأرذلين عدانيه
فقد قال (رضيوا) وهو يريد (رضوا) ولكن الوزن لا يسمح بهذا الأخير لذلك لجأ إلى الخطأ لإقامة الوزن, ولو قال (ألفوا حياة الأرذلين) أو نحو هذا, لخرج من هذا التكلف العامي. والثاني قوله (عدانيه) وهو استعمال عامي لحرف الاستثناء (عدا) مع ضمير المتكلم, والصواب أن يقول (عداي) وإذا أضاف هاء السكت قال (عدايَهْ) لكنه أتى بنون الوقاية في موضع لا تأتي فيه إلا في العامية. ومثل (عدانيه) كلمة (حشانيه) في قوله:
أولم تكن تدري نوار بأنني
أنف وعما لا يعز حشانيه
وفي قوله:
أذآب أقفار إذا ما لم يكن
حرب وإن حمي الوطيس حَصانيه
جمع (ذئب) على (أذآب) وهذا الجمع لم يرد في فصيح ولا عامي. كما قال (حَصانيه) ويريد بها: ثعالب, والثعلب يقال له (أبوالحصن وأبو الحصين), لكنه لا يُجمع على (حَصاني) إلا في العامية.
أما قصيدته (سقيفة معبد) فقد تجلى فيها التفاصح في أجلى صوره!
في الحلقة القادمة نعرض نماذج لظاهرة التفاصح في (أغنية لحجاب / قصيدة لسعد علوش / خالد الحربي).
alkadi61@hotmail.comتويتر alkadi61@