بين العقل والتردد والإرادة، قرر صاحبي فجأة أن يتزوج الثانية، لقد صمت طويلاً حتى ضجت أقفاص صدره، وضاق مدارة، وما عاد فضاؤه فضاء، وأنغرست في رئتيه جمرة ورماد، وغدا في جوفه حبال من نار، وشيء كالشجر ناقص الظل، واختلطت عليه الألوان كلها، حتى لكأن الماء غدا عنده
سراباً، صاحبي، تاه طويلاً بين موجة وموجة، اهتزت تحته الأرض حتى مال، في حنجرته بقايا كلام، دندن لوقع حاله لحناً قديماً، ثم صاح آه يا ذا القلب الحافي، والصمت العالي، لمن غرف القلب، والقلب أعزل، والحديقة بلا عشب، والفراشة صارت غير الفراشة، صاحبي هذا لم يعد كالسندباد يتصايح مع النوارس والصدى، بح صوته، وأفقه صار مثل الرماد، كان إذا غنى المغني، تحول الغناء عنده إلى بكاء، لحزنه الدفين، كان مثل المدينة التي بلا فجر تنام، والريح عنده تئن في قلب السكون، بيت يغطيه الجليد كان، هجرت نوافذه عصافير الربيع، مثل جسد يغطيه الصقيع، مثل منفي كان، يسافر إلى المدائن من باب لباب، يذوي كما تذوي الزنابق في التراب، خلسة خرج من جوفه طائره النورس نحو الماء، ثم أنزاحت مياهه للشجر، صعد للبرق والغيوم والسناء، ثم هبط للحقول والسهوب وساقية الماء، لم ينطف صاحبي قط، ولم تسقط أوراقه، ولم يداهمه الشتاء، أو تباغته حرارة اللهب، ولم يراعه الظلام في الطريق، دوزن كثيراً، دندن، أوقد نغمة، أطلق موال، ثم صاح بالهجيني:
يا عين لك بالهوى لفته
ما انتي على دين الإخواني
وجدك على واحد شفته
عوده من الزين روياني
الكحل بالعين سايفته
كن الهدب ريش غرباني
علا صاحبي، وصل سور الصين، وسور بابل، والجنائن المعلقة، سافر نحو واقعه الجديد كأنه الريشه بالريح، صار مثل “زرياب” واقفاً يغني، وعوده في يده، والجمهور يصفق، صاحبي هذا بعد طول ممانعة وتردد وتريث، صارت له شمس نهار، وموقد نار، وبستان، والعشب فوق جبينه يطفو، وصديقه السندباد عاد، صاحبي إياه اختار لواقعه دثاراً جديداً ثم نام بهدوء كطفل وسيم.