فرضت الكنيسة الكاثوليكية على الأوروبيين في العصور الوسطى النظر بمنظور كنسي إلى الأمور والقضايا والمواضيع والمواضع والسِّيَر والتقاليد والأعراف والمعارف والثقافات وكل شيء آخر يدور في حياة الفرد من تصرفات أو نوايا.
وكانت منطلقات تلك النظرة أن الإنسان هو ابن الخطيئة.. ولا نقاء ولا نجاة له منها إلا بالزهد في الدنيا والتطلع إلى الآخرة.. هذا الفكر أغرق إنسان ذلك الزمان في الغيبيات.. وجعله يتعلق بالخوارق والمعجزات.. وتقبّل في خضوع ما فرضته عليه الكنيسة من أن تعاليمها نصوص نهائية، تفسيرها لدى رجال الدين الذين يمثلونها وحدهم.. وأن مجرد التفكير فيها ناهيك عن مناقشتها ومحاجتها فكرياً ومنطقياً هو تطاول على الذات الكنسية التي هي بمنزلة الذات الإلهية.. فهذه أمور لا تُمَس ولا تُناقش بل تؤخذ كمُسَلَّمات.
كما نظرت الكنيسة بعين الازدراء لكل علم آخر غير علم اللاهوت؛ ما حَوَّل تلك العصور إلى زمن ضائع بالنسبة للمعرفة.. فتم قمع كل جهد، سواء كان علمياً أو فكرياً؛ ما حَوَّل التراكم المعرفي العمودي إلى تراكم معرفي مسطح، يسير في الاتجاه اللاهوتي المرغوب نفسه.. وما درت أنها بذلك قد أصابت التدين بضربة عنيفة.. أدارت الرؤوس، وزرعت الشك محل اليقين.
لقد تم تحويل الكنيسة إلى غذاء يومي.. كل تعاليمها وممارساتها وطقوسها احتلت كامل تفاصيل حياة فرد القرون الوسطى الأوروبي.. وبالتالي احتلت الكنيسة الزمان بأعوامه وأيامه وساعاته وثوانيه.. فسهل التجرؤ عليها وتجاوزها ونقدها والتشكيك بها بل تكذيبها.. وهذا ما حصل بين الشعوب التي تعرضت لهذه الهيمنة الدينية التي استغرقت كل حياتها.. فكان لا بد من قيام حركة مناهضة لها.