أصدق الحوارات هي التي تتم بين الغرباء. يلتقون في مطعم أو بهو فندق فينفسون عن مشاعرهم بأدنى درجة من الخوف، فهم عابرون مجهولون للآخر. أما أشدّ الغرباء كتماً لأصواتهم في أي موقع فهم المثقفون في عصر الاستبداد. رحم الله بلند الحيدري الشاعر العراقي الذي اختصرها بقوله: امتنعنا عن الأكل في المطاعم خشية تسميمنا!
دخلنا في حوار عرضي في مطعم الفندق مع زوجين على الطاولة المجاورة سألا: من أين أنتما؟ قلنا من السعودية. هما على مشارف الكهولة جاءا من روسيا ليقضيا إجازة الصيف في منتجع تركي. قال الرجل بإنجليزية ضعيفة: لا أحب بوتين! أحب أمريكا.. أحب موسيقا الجاز ورقصة الروك أند رول وأجواء الديموقراطية. ومدّت الزوجة يدها تضغط ذراعه بعفوية، فرأيت صقيع العلاقة بين الشعب الروسي ووطنه واضحاً مثل ثلوج سيبريا. لعله انبعاث جديد لسواد ما قرأت عن الجولاغ أيام تسلُّط الشيوعية. ناديا امرأة متوجّسة من التعبير بوضوح عن المشاعر, وآلكسي رجل متألم من محيطه الخاص, لم يزر أمريكا ولكنه بنى حلماً عن مرحلة مرت ما زال يذكرها كما انتقلت من أفلام هوليوود إلى أحلامه. يجد في حوارات الغربة فرصة للتعبير عن مشاعره التي ربما لا يستطيع الإفصاح عنها في وطنه.
قلت لهما: عشنا فيها سنوات التخصص, وأعجبتني كمجتمع ونظام وثقافة تشجع التميُّز الفردي وتحتفي بنجاح المجتهد, وتقاوم ميول البشر للتحيُّز والفساد, وتعاقب العنصرية وتضمن للفقير والمحتاج قوته؛ ولكني لم أفهم كيف يصل مثل نيكسون إلى الرئاسة, ويظل من اغتال كنيدي لغزاً. ولم أحب الهمبورغر ولا الكولا ولا الصّخب, فأراحني توفُّر مذاقات وبهارات كل مطابخ العالم في المطاعم. تعلّمت فيها أهمية جدّية التخصُّص واتساع أفق الاهتمامات والمعرفة الفردية. ولكنها في داخل حدودها غير عنها مع العالم خارجها. شعبها عامة لا يعرف عن الغير إلاّ سطحياً وما يرسمه له الإعلام الرسمي وغير الرسمي. ولها, مثل ما للقوى الكبرى كلها, مصالح سياسية واقتصادية تملي تفاعلاتها مع الغير. ولكن الغالبية مثلك ومثلي لا يعلمون كثيراً عن واقع الآخرين. ولم أر فيها إلاّ موقعاً مؤقتاً للدراسة ثم نعود إلى الوطن!!
قال: ما أجمل ما ترينه في الوطن؟ قلت: كونه قبلة المسلمين تاريخياً. وحالياً باختصار حبنا لعبد الله بن عبد العزيز !
قال: وماذا عن « الشرطة الدينية» التي نسمع أنها تطارد الناس؟
قلت: «شرطة دينية» مصطلح اخترعه أحد ما ليملأ فجوة جهل الآخرين بتفاصيل ديننا. أما «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» فهي شريعة تطالب بها كلّ الأديان: أن يكون وازع التصرُّف الصحيح في وجدان الفرد، وأن ينصح الآخر الذي يراه يرتكب خطأ.
قالت: هذا شيء جميل على ألاّ ينكلوا بالناس كما سمعنا عنهم!
توقفت هنا, فقد آليت على نفسي تطبيق المعروف بألاّ أكون من الكاذبين.
الواقع دائماً غير المثالي يا ناديا وآلكسي.
يدور الحوار اليوم بتعقُّل أحياناً وبدونه أحياناً أخرى, حول تفاصيل أوضاع مجتمعنا الراهن. وحين يتناول هيئة «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» يتصاعد إلى التشنُّج. وبغضِّ النظر من أين ابتدأ ولا من أي زاوية ينظر المتحاورون, يتشوّه الحوار جدلاً عقيماً بينما المآسي واضحة كالشمس. والشعيرة في حد ذاتها من أجمل التعاليم الإسلامية التي تضيء المجتمع بوجودها في وجدان وتصرُّف الأفراد, يلتزمون بها كوازع ذاتي, بشرط أن تبقى نصحاً هادياً للغير ملتزماً بأدب الحوار, ولا تتجاوز النصح إلى إلزام بقوة اليد.
وسأتابع الموضوع معكم في حوارنا القادم.