قلنا في المقالة السابقة كيف انحدرت القبائل النجدية نحو الشمال، وقلنا إنها لقيت صدّ عسكري رهيب من قبل الدولة العثمانية، باعتبار أن هذه القبائل (الجائعة) والقادمة من (صحراء الجوع) نجد ستهلك - بقطعان إبلها الهائلة كل (زروع الشمال) وحقيقة لقد وحّد الجوع لأول مرة في التاريخ قبيلتي (شمر وعنزة) المتنازعتين طوال الزمان، ضدّ الدولة العثمانية وكان أن اصطدمت القبيلتان مع عسكر الترك فوق جبل لما يزل يسمونه البدو (جبل ثلاب) وذلك لأن (ثلاب ابن مرشد) تقدم بكل بسالة وهو يرفع السيف نحو العدو، ولم يكن يعرف (المدفع) أو (الطوب) في لغة ذلك الزمان فما كان من الأتراك إلا أن وجهوا قذيفة نحو ثلاب البطل ومنذ تلك الحادثة أصبح ثمة مثل يتداوله الناس، بقولهم (طوب ثلاّب) لمن يجهل ما لا يعرفه(!!)
***
ولعل أي قارئ لتاريخ نجد وخصوصاً تاريخ القبائل النجدية النازحة نحو الشمال يعرف تماماً كيف أعدمت الدولة التركية الزعيم الشمري الكبير والشيخ الشهير عبدالكريم الجربا (أبو خوذة) الذي قلما يوجد مثله في المنح والهبة والعطية بين قبائلنا الأواخر. وكذلك يعرف القارئ كيف صلبت الدولة التركية على أحد (أطوابها) أو مدافعها لا فرق الشيخ والفارس العنزي الشهير (جدعان بن مهيد - سليل الأسرة الماجدة) التي (صوتت بالعشا) وكذلك كان هو الذي جدد هذه العادة النبيلة النازلة بين قبائل العرب، أقول صلبته على (الطوب) بجريرة ابن عمه الفارس التاريخي المجيد (سليمان بن مرشد) الشهير بـ(أبي شوارب) لمجرد أن ثلة من قبيلة الأخير اعتدت على (حلال) سكان إحدى القرى السورية وحينما طلبته الدولة نزح باتجاه (الحماد) ثم عاد إلى الفرات الأوسط ليشن غاراته على ممتلكات الدولة العثمانية ولما لم يجد العثمانيون وسيلة في استدراجه أو القبض عليه قبضت على ابن عمه (جدعان المهيد) وأعلنت أنها ستقصفه -شخصياً- بالمدفع إذا لم يسلم سليمان المرشد نفسه لهم (!!) وهذا نمط مما يسمى (بالعقل العصملي) في التدبير وبالفعل (أذعن) ابن مرشد لهذا التهديد وسلم نفسه لإنقاذ جدعان من هذا الحكم الجائر!! وقد اشترطت الدولة عليهما أن يقيما -جبرياً- هما وقبيلتهما ويتحولان إلى (مزارعين) ثابتين لا بدواً رحل ليضمنوا خضوعهما النهائي لقبضة الدولة ولكن فرسان القبيلة الذين اعتادوا على الحرية والانطلاق في أرجاء البراري عرضوا عرضتهم الحربية (حدواً) على ظهور الخيل هاتفين:
الزراعة زراعة جدّنا
ما هي لا بـ(حنطة ولا شعير)
اليسرى لـ(عنان الفرس)
واليمنى للـ(شلفاء الشطير)
ثم انطلقوا يهزجون باتجاه أرض الحماد. وحينما يئس الوالي العثماني من استيطان -ابن مرشد- الجبري دسّ له السم ليتخلص منه نهائياً.
وسنكمل لاحقاً في المقالة القادمة.