تنطوي لغة الأرقام والإحصاء على أثر مبهر، يوقع في نفس القارئ الخوف، لأن الأرقام حين تخرج عن سياقاتها ترعب الإنسان العادي، وبالتالي فإن مهمة الكاتب أو الباحث وصدقيته تتمثل في وضع النتائج ضمن سياقاتها.
أما النظريات الاقتصادية فهي أشد رعبا، لأنها أحيانا تقتص من الإنسان، وأخرى تسعى لمعاقبته، وأحيانا تتعامل وفق قوانين ميكانيكية تحوله قطعة «خردة» أو مجرد كائن استهلاكي.
وفي هذا السياق جاءت نظرية القيمة الضائعة أو المفقودة، التي تتحدث عن الثقافة بوصفها نوعا من «البطر» أو «الفخفخة» التي لا تضيف شيئا لصندوق أو جيوب أصحاب المؤسسات الصناعية أو التجارية.
وهي نظرية ذات وجه واحد إذا أردنا تخفيف التوصيف، أما الواقع فهو يراها حولاء أو بعين واحدة.
واستدل على ذلك أن مفهوم الثقافة أصلا قد نشأ عندما نشأ تاريخيا بفرنسا في حاضنة الإنتاج، وتطورت أنماطه من الزراعة إلى الصناعة التي ارتبطت بنوع من الإتقان.
فالثقافة بمقدار ما تؤرخ لمراحل الإنتاج، فإنها تمثل أحد محركات تطورها الأساسي، والكثير من الأمثلة تقف شواهد على ذلك، بدءاً من رسومات دافنشي، وانتهاءً بالحالمين من مصممي الغرافيك والروائيين والشعراء، والسينما.
وعدا عن أن الثقافة في عصر ما بعد الطباعة أصبحث تمثل إحدى ركائز الاقتصاد للكثير من دول العالم، ويعتاش من حلقاتها ملايين البشر، فقد أخذت هذه المكانة تتعزز مع اتساع مفهوم العولمة، واتساع سوق المعرفة، وانتشار التقنيات الاتصالية الحديثة مثل، الإنترنت والفضائيات.
لكن المسألة الأكثر أهمية، هي ظهور فكرة التنمية الشاملة، وهي التنمية التي لا تختزل الإنسان في بعد واحد، هو البعد البيولوجي، وإنما تأخذ البعد الاجتماعي والاقتصادي والعقلي والنفسي، وهي نظرية تعلي من شأن الإنسان بوصفه مالك الآلة وليس ضحيتها. وهي نظرية ليست توفيقية أو ميتافيزيقية، بل هي في منتهى الواقعية في نظرتها إلى أن التطور يقوم على الكل، وبالمقابل فإن الجمود والتخلف يقوم على الكل.
وترى فضلا عن المساهمة الكبيرة التي ترفد عجلة اقتصاد السوق أن تنمية البعد الثقافي من شأنه أن يوجه ويتحكم ويقوي دولاب الإنتاج، ويتيح له نوعا من التنافذ المتوازن بين شقي عملية الإنتاج والاستهلاك ودوامها، من جهة، وبقاء حيويتها دون تعرضها لجفاف مسالكها. ومن المهم القول في هذا السياق: إن ما جرى من تطورات في الجانب الاقتصادي، قد ماثلتها تحولات في مفهوم الثقافة ذاتها التي لم تعد تتوقف عند الشعر والقصة والرواية، وإنما يندرج تحت هذا العنوان كل ما من شأنه العمل في الحقول المعرفية والفكرية، وهو أيضا ما انعكس على مفهوم المثقف الذي يندرج تحته ليس النخبة، بل محركو عصب الحركة الصناعية والتجارية ممن يجلسون وراء شاشات الكمبيوتر الذي غدا مفتاح حركة الحياة.
حسين نشوان