تعلو الرؤية الخاصة في المصالح والمنافع على الرؤية العامة عندما تعلو وتتضخم الـ (أنا) الضيقة على الـ (أنا) الواسعة، وهذه الـ (أنا) الأنانية تضيق وتتسع بحسب مناخ الدائرة الارتكازية التي يسبح في محيطها الفكر الغالب في مجتمع ما.
فمثلا لا يتحرج الإنسان في مجتمعات معينة من الوقوف في الصف حتى وإن رآه طويلا ومملا في حين يعتبر التحايل على الصف وتجاوزه ذكاء ومهارة لدى الإنسان في مجتمع آخر، والإنسان في كلا الحالتين هو الإنسان ذاته بحاجاته ورغباته وقدراته، لكن الذي يفصل بينهما في اختلاف السلوك هو اختلاف الوعي الوجداني الحاكم والموجه لهذا السلوك، ومن الطبيعي القول إن السلوك ترجمة الفكر وإن الفكر محكوم بالثقافة الوجدانية العامة، والأمر كذلك، فإن الثقافة الوجدانية العامة الحاكمة للفكر المترجم للسلوك هي التي تحتاج إلى ترقية وتهذيب، ولا يمكن فعل ذلك إلا من خلال رؤية جماعية متفق عليها وجدانيا، وهذه الرؤية الوجدانية الجماعية لا يمكن الاتفاق عليها باجتماع أو قرار أو حتى أنظمة أو قوانين، وإنما يتم ذلك من خلال نهج يوسع الـ(أنا) الضيقة عبر إدخالها جزء من الـ(أنا) الواسعة لتصبح المصلحة أو المنفعة العامة مصلحة ومنفعة فرديه فترتقي الـ(أنا) الضيقة لتحمي الـ(أنا) الواسعة باعتبارها تحمي ذاتها وتحقق احتياجاتها، ولأننا نتحدث عن تطوير وجداني يعتمد على الوعي والثقافة فلا يعتد بالأنظمة والقوانين في تحقيق ذلك باعتبارنا أمام فهم قائم نسعى لترقيته وتطويره، والفهم عملية فيزيائية فطرية لا يمكن التعامل معها إلا من خلال الوعي الوجداني العام، وهذا الوعي الوجداني العام لا يتشكل أو يصنع بأنظمة أو قوانين كما أسلفت وإنما يتم نسجه بفهم منظم ومقنن يستند على إرث الماضي وحقيقة الحاضر وتخيّل المستقبل لتحقيق الحياة الأفضل للفرد عبر انتقال المجتمع من حال إلى حال أرقى وأفضل.
إن هذا يتطلب تنازلا من الفرد لصالح الجماعة، لكن بإيمان عميق أن الصالح الجماعي أو العام سيعود على الفرد بالمنفعة والمصلحة، بيد أن هذا الإيمان العميق لن يكون جزافا أو مجاناً، فالإنسان بفطرته الغريزية حريص على ذاته الضيقة حتى على حساب ذاته الأوسع، ولا يمكن أن يقدم التنازل حتى لو أراد دون أن تطمئن غرائزه الفطرية في المكاسب المحتملة، لذلك يصبح التنظيم والتقنين للحقوق والواجبات ومتابعتها ومراقبتها وقدرتها في الوصول إلى درجة الرضا والقبول في العدل والتساوي هي المرتكز الأساسي لبدء تحقيق انصهار الذات في الجماعة أو لنقل تحويل الـ (أنا) الضيقة إلى (أنا) واسعة وعامة، فبوجود الأنظمة والقوانين التي تضبط الحقوق والواجبات تقدمت مجتمعات وشعوب عبر الانتقال من الأنانية الفردية في النظرة للمصالح والمنافع إلى النظرة الجماعية، فصارت الرؤية أوسع للعقل والفكر للإبداع والاختراع وبالتالي تقدمت وسادت.
إن عملية تطور ونمو الوعي والوجدان تحتاج إلى فهم عميق ومتنوع يفلسف الرؤية ويرسم خيوط الاتجاه لبناء شبكة متكاملة تثري الوعي وتؤثر في الوجدان، نحتاج فيما نحتاج إلى شاعر ذي خيال خصب وفنان يرسم بخياله إشراقة فجر وفكر حر مستقل يتجاوز حقيقة الأرقام وجمود القواعد الرياضية، والقصد أن البناء إذا خلا من الحس والإبداع واللمسة الإنسانية الفطرية صار عبئا يضيق بصاحبه، والنمو إن لم يكن في عقل يفكر صار رهاب و»زهايمر» يرعش اليدين ويثقل الشفتين، وفي كل حال فإن البناء والنمو إن لم يقم على فلسفة وفهم لأهمية وحيوية تطوير الوعي الثقافي الوجداني للفرد والجماعة فإن كل إنجاز مادي يظهر ومهما كانت فوائده ومنافعه سيبقى عاملا يساعد في ترسيخ الجمود في علاقة الـ(أنا) الضيقة مع الـ(أنا) الواسعة ويتيح للرؤية الخاصة للمنافع والمصالح مساحة أوسع على حساب الرؤية العامة لهذه المنافع والمصالح، وهذا وضع قد يؤثر في الوعي الوجداني العام سلباً ويصنع ثقافة الأنانية الضيقة في الخفاء تحت مظلة الإبهار الهشة التي لا تصمد إلا عبر مزيد من الـ(أنا) الضيقة المؤذية للصالح العام وعلى حسابها.
إن فلسفة التطور والنمو يجب أن تطال عقل الفرد وتؤثر فيه وتخرجه من الأنانية الفطرية الغريزية الضيقة، عبر توسعة هذه الأنانية الفطرية الغريزية من الذات إلى الجماعة وتحويل المنفعة والمصلحة العامة إلى منفعة ومصلحة فردية يحرص كل فرد على حمايتها، بما تعود عليه كفرد بمصالح ومنافع قد يعجز عن تحقيقها بمفرده، فتكون بذلك المنفعة والمصلحة العامة آمنة ومحمية من الضمير والوعي والوجدان قبل النظام والقانون، النظام والقانون مهما وصل من قوة ويقظة لا يقارن بيقظة الضمير.
Hassan-Alyemni@hotmail.comTwitter: @HassanAlyemni