للقوة مفاهيمها ومعانيها، ولها دلالاتها ومظاهرها في مخزون الفكر البشري، وهي مطلب مهم للإنسان بصفته الخاصة كي يحيا حياة كريمة، كما أنها مطلب مهم كذلك للدولة أوالمجتمع على اختلاف عناوين تكويناته ومستويات التكوين، فالإنسان القوي خير وأجدى من ذاك الضعيف، وكذا الدولة والمجتمع، القوي من أي منهما يكون أعلى قدراً، وأرفع شأناً، وأرسخ مهابة ومكانة من المتهالك في بنيته، الضعيف في مقومات حياته، فالإنسان الضعيف، والأمة الضعيفة كلاهما يعيش عالة على الآخرين، ليس هذا فحسب، بل لا قيمة لهما ولا دور، لأن كلا منهما لا يملك الإرادة وبالتالي الاختيار والفعل.
القوة صفة لا يتم تملكها بالتمني والادعاء، أوبالاستعراض الأجوف المدجج بعبارات الحماسة، بل يتم بالتحلي بالمقومات الفعلية المؤهلة لها، وهي مقومات رئيسة لها بعد معنوي وآخر مادي، فعلى مستوى الفرد لا بد من التحلي بجسم سليم البنية، صحيح التكوين، خال من الأسقام والأمراض البدنية والنفسية، وفي الوقت نفسه لا بد من أن يتحلى صاحب الجسم القوي بعزم وشجاعة، وقوة بأس وجرأة وإقدام، فالأمران متلازمان لا يغني أحدهما عن الآخر، صحة جسمية مع شجاعة وإقدام، وبقدر ما يتحلى به من هذين المقومين يوصف الفرد بالقوة من عدمها، فلا قيمة للجسم القوي في بنيته ما لم يتحل صاحبه بالجسارة والشجاعة، والإرادة والقدرة على الفعل وفق الخيارات التي يراها ويحددها، والعكس صحيح.
والحال نفسها تنطبق على الدول وعلى المجتمعات، فأي دولة لا تمتلك القوة الرادعة، لن تكون مهابة الجانب والحمى، بل لن يسمع لقولها، ولن يستجاب لطلبها، لأنها أقل شأناً من أن يؤبه لها، وأن يؤخذ في الحسبان لها اعتبار عند احتدام الأزمات والصراعات، هذا ما يغلب على الظن، وهذا ما تؤكده وقائع التاريخ في الماضي، وتدل عليها العديد من الصراعات في الزمن الحاضر.
لكن في هذا العصر، يبدو أن موازين القوة الخشنة قد اختلت، وأن ما يظن بها من قدرة على التصدي، وصمود أمام التحديات، قد تلاشى وثبت بطلانه، فالأحداث الأخيرة على الأقل في الوطن العربي أثبتت أن القوة الخشنة أضعف وأجبن من أن تقف أمام الإرادة الحرة، إرادة الخلاص من صور الاستبعاد والاستعباد والظلم، هذه الإرادة التي لا تمتلك سلاحا استطاعت أن تتصدى بمنتهى الشجاعة والإصرار والقوة على كل مظاهر العنف وصوره، ليس هذا فحسب بل هزمتها ودحرتها، وجعلتها تجر أذيال الخيبة والاندحار والخزي والعار بسبب أفعالها المشينة التي تجاوزت في بشاعتها كل صور الوحشية والظلم والقهر التي يمارسها الغزاة المعتدون، إن المواجهات العنيفة للأحداث المؤسفة التي ما زالت تدور رحاها في عدد من البلدان العربية أثبت أنها مواجهات فاشلة، وأنها لن تنتصر مهما كانت درجة قوتها وعنفها وتماديها في القتل والتدمير.
وبناء على هذه النتيجة، يفترض في صناع السياسة، ومتخذي القرارات وأخص من لهم علاقة مباشرة بتسيير شؤون الناس وتدبير معاشهم، أن يبحثوا في البدائل التي تتوافق مع ما يعد من المسلمات البدهية التي يجب أن تتسم بها العلاقة بين السلطة والشعب، فلا مجال للبطش، ولا قبول للقنابل المسيلة للدموع، ولا سكوت عن القتل، ولا تأييد للظلم، ولا مجال للاستبعاد أوالاستعباد أوالتهميش، كل هذه المصطلحات والعناوين لم تعد ممكنة أومقبولة في هذه المرحلة التي تجاوز فيها العقل العربي أساليب المسخرة والاستغفال.
فعوضا عن ممارسات الاضطهاد وعناوينه التي يجب أن تنسى وتمحى من قاموس السلطة، هناك العديد من الأساليب والممارسات الحضارية التي تتوافق مع حقوق الإنسان وكرامته، من ذلك، التوسع في سبل التواصل والاتصال مع الناس من أجل التعرف على أحوالهم، والإنصات لمطالبهم، ومعالجة قضاياهم، والعدل بينهم في التنمية وفرص العمل والحياة الكريمة، وتمكينهم من المشاركة الفعالة في مجالات الحياة الاجتماعية كافة، واعتماد المحاسبة منهجا لتقويم الأخطاء ومحاربة أوجه الفساد على اختلاف صوره ومستوياته، واحترام خيارات الناس في أداء عباداتهم، وعدم استفزاز مشاعرهم بتسهيل صور الإفساد والفساد المادية والمعنوية التي أفضت إلى اختلال الموازين الاجتماعية والاقتصادية.