يوم في حياة عبدالعزيز:
أذكر أنني قد بدأت سلسلة مقالاتي هذه عن الجوانب الشخصية في حياة المؤسس، الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن الفيصل آل سعود - طيّب الله ثراه - بمقال عن الجانب الإنساني في حياته، نُشر بجريدة الرياض في عددها الصادر يوم الخميس، الرابع عشر من شوال عام 1431هـ، الموافق الثاني والعشرين من سبتمبر عام 2010م، العدد 15431 - السنة السابعة والأربعين. اعترفت فيه بأن الذي حفزني للتفكير في كتابة هذه السلسلة من المقالات هو سيدي صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن عبدالعزيز آل سعود - يحفظه الله - وزير الدفاع، رئيس مجلس إدارة دارة الملك عبدالعزيز، من خلال كتابه (ملامح إنسانية من سيرة الملك عبدالعزيز) الذي أصدرته الدارة، معين تاريخنا الوطني ومستودع إرثنا الحضاري. ثم أردفت مقالي هذا بمقالات أخرى عن بعض الجوانب في شخصية المؤسس، شملت: الجانب الاجتماعي، الجانب الأمني والجانب السياسي.
ووعدت القراء الأعزاء في آخر مقال لي نُشر من هذه السلسلة (الجانب السياسي) في حياة المؤسس بمواصلة هذه الحلقات التي أجد فيها راحة نفسية حقيقية، لحبنا للمؤسس، وعشقنا له، وحرصنا على الوفاء له والإخلاص لنهجه السديد في الحكم والحياة، واعترافنا بفضله علينا، بعد الله سبحانه وتعالى، في كل ما نرفل فيه اليوم من خير، وننعم به من تعاون وتراحم وتآلف. وإن كنت أعلم يقيناً أن هذا العمل ليس سهلاً، ولاسيما على رجل مشغول مثلي، غير متفرغ للكتابة والبحث الذي يحتاج إلى وقت وجهد كبيرين. لكنه - على كل حال - تحدٍّ مع نفسي، قبلته وتشرفت به، وأحس أنني قطعت فيه شوطاً لا بأس به.
ومثلما أنني مدين لسيدي صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن عبدالعزيز بالتحفيز على كتابة هذه السلسلة - كما أسلفت - أجد نفسي اليوم ممتناً لسموه الكريم أيضاً لحثي على مواصلتها من خلال افتتاحه ندوة (الجوانب الإنسانية والاجتماعية في تاريخ الملك عبدالعزيز) بجامعة الملك سعود، مساء السبت، الثاني عشر من ربيع الأول عام 1433هـ، الموافق الرابع من فبراير عام 2012م، وتدشين كرسي سموه للدراسات التاريخية والحضارية للجزيرة العربية بالجامعة المعنية بالتعاون مع دارة الملك عبدالعزيز. وقد تحدَّث في تلك الندوة نحو ثلاثين مثقفاً ومثقفة من أبناء بلادي من أصحاب الشهادات العلمية الرفيعة، فتناولوا مختلف الجوانب الإنسانية في شخصية المؤسس، مؤكدين ما ذهبت إليه في مقالاتي السابقة.
وقبل الاسترسال في موضوع اليوم أدرك جيداً أنه ربما أنكر عليّ البعض تناوله، باعتبار أن حياة عبدالعزيز كانت كلها محكومة بإطار الدين، حتى حروبه وقتاله من أجل توحيد هذه البلاد، وصداقاته وعداواته من أجل تأمينها وحمايتها، والدفاع عن مقدساتها، وسعيه الحثيث لراحة أهلها والوافدين إليها من ضيوف الرحمن من شتى بقاع الأرض.
وأقول: هذا كله صحيح، لم يكن الدين مجرد جانب من جوانب شخصية المؤسس الثرة؛ إذ كانت حياته كلها مقيدة بإطار الدين. غير أنني أردت بمقالي هذا الوقوف على ترجمة الملك عبدالعزيز لمعاني الدين السامية في الحياة، وتأكيده أنه ليس محصوراً في أداء الشعائر من صلاة وصوم وزكاة وحج، مع تسليمه التام بأنها تمثل عمود الدين وذروة سنامه، إلا أنه لم يحصر الدين بين جدران المسجد، بل جعله نبراساً وهادياً يحكم كل نشاطات الحياة وممارستها وتعامل الناس مع بعضهم بعضاً أو حتى مع أنفسهم كما سنرى، تأكيداً لمبدأ: «الدين المعاملة»، الذي أقره رسول الله -صلى الله عليه وسلم -، الذي بعثه ربه - عز وجل - رحمة للعالمين؛ لأن في هذا دروساً وقيماً ومواقف تستحق من شبابنا التأمل والاقتداء، كما أكد سمو سيدي الأمير سلمان بن عبدالعزيز، وزير الدفاع، في الندوة المشار إليها آنفاً.
فلنبدأ بحثنا هذا باستعراض يوم في حياة عبدالعزيز؛ لنرى كيف كان المؤسس يتمثل معاني الدين في كل سكناته وحركاته؛ وبالتالي ممارسته الحكم وإدارته شؤون دولته وتحديد نهجه في سياسته الخارجية، ويحمل نفسه على أداء واجباته الدينية والاجتماعية مهما كانت مشاغله: يؤكد كل من صحب الملك عبدالعزيز في السلم والحرب، وعاشره في البادية والحاضرة، وخبره في حالتي الرضا والغضب، أن حياته الشخصية لا تكاد تختلف عن حياته العامة إلا يسيراً، وشبهوها بنظام تلقائي لا يكاد يتغير؛ إذ يستيقظ عادة قبل الفجر بساعة، فيقرأ ما تيسر من القرآن الكريم، حتى إذا أذن مؤذن الفجر أدى فريضة الصلاة، ثم ينصرف إلى بيته، يقرأ شيئاً من القرآن والأوراد الصحيحة النسبة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم تعرض عليه الأشياء التي تقتضي البت فيها بسرعة، ثم ينام بعد ذلك قليلاً، فيغتسل كل يوم صباحاً، ويلبس ثيابه ويفطر، ثم يخرج إلى مجلسه الخاص، فتعرض عليه مهمات الحكومة، ويعطي أوامره لموظفيه، فإذا انتهى من ذلك قابل الناس من شيوخ البدو وكبار العرب مقابلات خاصة، يسمع شكوى المشتكي ونصح الناصح، ويباحث زعماء الزوار فيما يهم من شؤونهم، ثم يذهب إلى المجلس العام الذي يجتمع فيه كل من يريد مقابلته، ويقضي فيه نحو ساعة، في حديث أشبه بخطابة فيما يهم من أمور الدين والدنيا، ثم ينصرف إلى الغداء، ثم يرجع إلى بيته فينام قليلاً، ثم يصلي الظهر، ثم يرجع إلى مجلسه الخاص، فتعرض عليه الشؤون المهمة، ثم ينصرف لصلاة العصر، فيحضر عنده إخوانه وأولاده وأقاربه وكبار الموظفين يسامرهم، ثم يخرج بعد ذلك في سيارته إلى الضواحي للرياضة، وبعد العشاء يجلس في مجلس عام، وهنالك يحضر قارئ يقرأ نحو ساعة من كتب مختلفة في الحديث والتفسير والأدب، ثم ينصرف الملك إلى بيته.
كما أكدوا أن المؤسس كان شديد الحرص بين هذا وذاك على أداء واجباته الدينية والاجتماعية، مهما كانت مشاغله وارتباطاته، إذ يزور والده الإمام عبدالرحمن يومياً وسائر أقاربه الأدنين، ويلتزم بهذا حتى إذا كان في مكة المكرمة؛ إذ يزور كل من يكون حاضراً بها منهم.
أما فيما يتعلق بأخلاقه وسلوكه فقد أجمع كل من كتب عنه على كرم خلقه، وبسط يده، وسعة صدره، ورقة طبعه، ووفائه وصدقه وإخلاصه، وطيبة قلبه، وصبره والتزامه، ونزاهته، ونقاء سريرته، وتجرده ونكرانه لذاته.. شديد الثقة بربه، قوي الإيمان به، معتزاً بانتمائه لعقيدته الإسلامية وأمته العربية، ساعياً دوماً لعزهما ومجدهما، شديد المنافحة عنهما، لا يقبل أبداً أن ينال أحد منهما، مهما كان جاهه وسلطانه أو نفوذه وقوته. كما كان متواضعاً، زاهداً، لا يبالي بما يلبس أو يأكل، وكانت غايته الوحيدة هي مواصلة عمل والده للقضاء على البدع والخرافات ونشر دعوة التوحيد.. ولهذا كان شديداً في الحق وتنفيذ أوامر الشريعة الإسلامية، التي أنشأ دولته على أساسها، فلم يكن يبالي بمن ينفذ عليه الحكم؛ لأن مرضاة الله عنده مقدَّمة على كل اعتبار؛ فقد كان يرى نفسه وأسرته خداماً لهذا الدين، وليسو طلاب سلطة، كما يؤكد دائماً: «نحن آل سعود لسنا ملوكاً، لكننا أصحاب رسالة».. هذه الرسالة التي أفنى عبدالعزيز حياته كلها من أجل أدائها بما يرضي الله ورسوله، ويحقق مصالح الشعب، ويصون وحدة الأمة، ويحفظ لها عزتها وكرامتها.
الملك الداعية:
فهلموا نقلب معاً سريعاً في بعض خطب المؤسس؛ لنرى مدى حرصه على نصرة هذه الرسالة التي اختارها الله آخر الرسالات، ومدى تمثل عبدالعزيز لتعاليمها في حياته كلها؛ لأنه يدرك يقيناً أن صلاح العباد في الدنيا وفوزهم بالنعيم المقيم في الدار الآخرة لا يتحققان إلا بمعرفة الدين والعمل به؛ إذ يقول في خطبة له في ذي القعدة عام 1334هـ: «... وقد عرفتم ما مَنّ الله به من معرفة دين الإسلام والانتساب إليه، وهو الدين الذي بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه، وخلق الخلق لأجله، ولا صلاح للعباد في معاشهم ومعادهم إلا بمعرفة هذا الدين ومحبته وقبوله والعمل به، وبذل الجهد في ذلك علماً وعملاً، والدعوة إليه والرغبة فيه، وأن يكون همُّ الإنسان وسعيه وتحصيل ذلك؛ ليحصل له النعيم المقيم الأبدي والسرور السرمدي، وينجو من طريقة أهل الغفلة والإعراض، أعاذنا الله وإياكم من اتباع سبيلهم». ثم يحض الناس على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويحثهم على أداء الصلاة جماعة، ولا يتساهل في هذا مطلقاً؛ إذ يقول - طيب الله ثراه - في الخطبة ذاتها: «... لا صلاح للعباد في معاشهم ومعادهم إلا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.. وقد عيَّنَّا نواباً لتفقد الناس عند الصلاة، ومعرفة أهل الكسل الذي اعتادوه، وعرفوا من بين المسلمين بذلك، فيقومون على من قدروا عليه بالحبس والضرب، ومن هابوه ولم يقدروا عليه فليرفع أمره لنا وتبرأ ذمتهم لذلك، ولا يكون لأحد حجة يحتج بها علينا». وقد أكد سيدي صاحب السمو الملكي هذا المبدأ في ندوة (الجوانب الإنسانية والاجتماعية في تاريخ الملك عبدالعزيز) التي أشرت إليها في صدر هذا المقال؛ إذ يقول: «لقد عرفت أنا وإخواني، ونحن شباب، أن والدنا المؤسس الملك عبدالعزيز كان يحرص على الشباب وقضاء أوقاتهم فيما ينفع، وأداء الصلوات في أوقاتها؛ حيث كان يحبس الواحد منا الذي يتأخر عن الصلاة معه في المسجد أو عن الدراسة في غرفة صغيرة داخل قصر المربع».
أجل.. هكذا كان عبدالعزيز يربي ويوجه، مؤكداً أن الإصلاح يبدأ من النفس، موصياً الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر بأن يبدؤوا بأنفسهم أولاً، فيكونوا قدوة صالحة للآخرين؛ إذ جاء في خطابه أمام موظفي الديوان الملكي بأجياد في مكة المكرمة عام 1346هـ (1927م): «نحن وضعنا جماعة تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، فبلاغاتها ومقرراتها تشمل الجميع على السواء، وأنتم المكلفون بتنفيذها، فإذا كنتم لا تبدؤون بأنفسكم وتكونون قدوة صالحة للناس يصعب تطبيقها وتنفيذها».
وتظهر في هذه الخطبة نفسها نزعة العدل التي كانت متأصلة في نفس عبدالعزيز، الذي كان ينظر لكل أفراد رعيته بعين الأب لأبنائه؛ إذ لا فرق عنده بين صغير وكبير، ورفيع وغيره، في سائر الحقوق والواجبات فاسمعوه إذ يقول في الخطبة السابقة نفسها: «... هنا محاكم شرعية، ولجان الأمر بالمعروف أسست لإظهار الحق، وأنتم أيها القوم أمناء لهذا الدين، ولهذا البلد الأمين، وأنتم مسؤولون عنه، وأنتم خدامه، فالأوامر التي تمشي على البلد يجب أن تمشي عليكم، ولا يجوز في أي حالة تمشية الأوامر على فريق دون آخر».
ويتضح لنا التزام عبدالعزيز بمسؤوليته هذه تجاه الكل في خطبة له في 24- 10- 1345هـ، مخاطباً الأمراء والأعيان: «والآن أنتم أيها الأمراء والأعيان نوابي، والذي في ذمتي في ذمتكم، وبار المسلمين وفاجرهم كلهم بذمتي، والذي في ذمتي في ذمتكم، يجب علينا أن المسلم الكاف ندعو له بالثبات، والمسلم الذي فيه بعض التعدي نردعه على تعديه، ونحكم أمر الله فيه، والمسلم الذي عليه بعض الخلل في دينه أو النقص نشير عليه وننصحه، فإن ارتدع فالحمد لله، وإن أبى حكمنا فيه أمر الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم».
فهكذا كان عبدالعزيز يحض الناس على مكارم الأخلاق، والحرص على العلم والعمل، والالتزام بشرع الله، محذراً إياهم من عصيانه سبحانه وتعالى، والوقوع في الزلل، والقول على الله ورسوله بغير علم، مؤكداً ضرورة تعظيم أمر الله ونهيه. ومن يتأمل هذه الخطب جيداً، بعين الباحث الحصيف، يبدو له الجانب الدعوي في عبد العزيز طاغياً على كل جوانب شخصيته العديدة الفريدة، لدرجة تؤكد أن هذا القائد الهمام داعية من طراز نادر، يدرك أهمية الدين في ضبط حياة الناس وتنظيم شؤونهم، فيحضهم على التمسك بعقيدتهم وعدم التفريط في حق الله عليهم مهما كانت الظروف والأسباب.
ويشرح للناس أمر حقيقة الاعتقاد بإدراك العالم الثبت، مؤكداً أن كل أئمة المسلمين على حق، ولا خلاف بين المذاهب الأربعة من حيث المعتقد والتوحيد؛ إذ يقول في خطاب له في التاسع من ذي الحجة عام 1377هـ: «... وأحببت أن أشرح أمر الاعتقاد الذي ذكره المشايخ في خطبهم، وهو ذكرهم أن معتقد المسلمين واحد حضري وبدوي، تعرفون أن أصل المعتقد كتاب الله وسُنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وما كان عليه أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، ثم السلف الصالح من بعدهم، ثم من بعدهم أئمة المسلمين الأربعة، الإمام مالك والإمام الشافعي والإمام أحمد والإمام أبو حنيفة، فهؤلاء اعتقادهم واحد في الأصل، وهو أنواع التوحيد الثلاثة: توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات، وتقرير ذلك في كتب العلماء التي تراجعونها بحمد الله كل ساعة. فهم في هذا الأصل واحد، وقد يكون بينهم اختلاف في الفروع. كلهم على حق إن شاء الله، ومن حذا حذوهم إلى يوم القيامة. نحن والمذكورون أعلاه على ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم».
هكذا كان عبدالعزيز:
أجل.. هذا هو عبدالعزيز، البطل الفذ، والقائد الصالح، الزاهد في المُلك وأبهته، والرجل الأمة، الذي كان يرهن سيفه، ويستدين لتدبير شؤون رعيته، ويحبس ولده إن هو تخلف عن صلاة الجماعة أو حضور الدرس، وينزل عن عرشه ليقف إلى جوار خصمه أمام القاضي، محتكماً إلى الشرع، ثم يلزم نفسه بتنفيذ الحكم، لا يهم إن كان له أو عليه، ما دام مستنداً إلى الشرع. ويعترف ولسانه يلهج بالشكر لخالقه بأنه لم يكن شيئاً مذكوراً، مؤكداً أن كل ما حققه من نصر ومجد وعزة لشعبه وقومه وأمتيه الإسلامية والعربية، وأسداه من خدمة للإنسانية.. كل ذلك هو بفضل الله سبحانه وتعالى وحده، ثم قوة إيمانه بخالقه، وصدق توحيده له، وثقته فيه؛ إذ يقول في خطاب ألقاه في حفل أقيم في القصر الملكي بمكة المكرمة في غرة ذي الحجة عام 1347هـ (11-5-1929م): «لقد كنت لا شيء، وأصبحت اليوم وقد سيطرت على بلاد شاسعة، يحدها شمالاً العراق وبر الشام، وجنوباً اليمن، وغرباً البحر الأحمر، وشرقاً الخليج. لقد فتحت هذه البلاد ولم يكن عندي من العتاد سوى قوة الإيمان، وقوة التوحيد، ومن (التجدد) غير التمسك بكتاب الله وسُنة رسوله، فنصرني الله نصراً عزيزاً.. لقد خرجت وأنا لا أملك شيئاً من حطام الدنيا ومن القوة البشرية، وقد تآلب الأعداء عليَّ، ولكن بفضل الله وقوته تغلبت على أعدائي، وفتحت كل هذه البلاد».
أجل.. هذا هو عبدالعزيز الذي كان يحمل السيف بيد والمصحف بأخرى، ناذراً نفسه ابتغاء مرضاة الله، مشهداً ربه على زهده في المُلك وحرصه على رضا خالقه؛ إذ يضيف - طيّب الله ثراه - في خطابه الذي أشرت إليه آنفاً: «والله إنني لا أحب المُلك وأبهته، ولا أبغي إلا مرضاة الله والدعوة إلى الوحيد. ليتعاهد المسلمون فيما بينهم على التمسك بذلك، وليتفقوا، فإنني أسير وقتئذٍ معهم، لا بصفة ملك أو زعيم أو أمير، بل بصفة خادم. أسير معهم أنا وأسرتي وجيشي وبنو قومي، والله على ما أقول شهيد، وهو خير الشاهدين». ويؤكد في خطاب ألقاه في مبنى وكالة المالية في الطائف، احتفاءً بمقدمه، في 18-1-1351هـ (24-5-1932م) أن همه كله هو إعلاء كلمة الله، ولا يهم إن تحقق ذلك حتى على يد أعدائه، وإن كان يرجو الله أن يشرفه بهذا العز؛ إذ يقول: «... وإني أجاهد لإعلاء كلمة التوحيد والحرص عليها، وأحب أن أراها قائمة ولو على يد أعدائي، وإن تمت على يدي فذلك فضل من الله».
أجل.. هذا هو عبد العزيز، صاحب الرسالة الذي لا يرى في هذه الدنيا فخراً له أو لغيره إلا بالتمسك بهذا الدين الحنيف والعمل على نصرته؛ إذ يؤكد في خطابه الذي ألقاه في الحفل الذي أقامته أمانة العاصمة في مكة المكرمة على شرفه في 1-12-1348هـ (30-4-1930م): «... لست ممن يفخرون بألقاب المُلك ولا بأبهته، ولست ممن يولعون بالألقاب ويركضون وراءها، وإنما نحن نفتخر بالدين الإسلامي، ونفتخر بأننا دعاة مبشرون لتوحيد الله ونشر دينه، وأحب الأعمال إلينا هو العمل في هذا السبيل بأننا نلنا فخراً يزيد عن فخر الملك وأبهته».
أجل.. هذا هو عبد العزيز، الصابر المجاهد، العابد الزاهد، الذي لا يرى له فخراً وعزاً إلا بالإسلام، الذي أعز سلمان الفارسي وبلالاً الحبشي، ووضع أبا جهل وأبا لهب، فنذر نفسه وماله وولده لتأييده ونصرته، سائلاً الله أن يوفقه؛ إذ يضيف في خطابه السابق: «... إن فخرنا وعزنا بالإسلام. والله لا يهمني مال قارون ولا غيره. وكل همي موجَّه لإعلاء كلمة الدين وإعزاز المسلمين.. سنبقى مثابرين، أنا وأسرتي، على هذه الخطة إلى ما شاء الله، ولن نحيد عنها قيد شعرة بحول الله وقوته. ومن الله نسأل التوفيق والهداية».
أجل.. ذاك هو عبد العزيز، الذي لم ينسَ واجبه تجاه إخوته في العقيدة والعروبة، حتى مع انشغاله بمهمات تأسيس دولته، وتثبيت أركانها، ورعاية أفراد شعبه، وتوفير احتياجاتهم المادية والمعنوية والروحية، في ظروف أقل ما يمكن أن يقال عنها إنها كانت شديدة الصعوبة وبالغة التعقيد، فاسمعوه يخاطب معتمدي الدول وقناصلها في حشد من أعيان جدة عام 1344هـ (1926م): «... وأما حقوقنا على الدول ففيما يتعلق بهذه الديار نطلب منهم أن يسهلوا السبل إلى هذه الديار المقدسة للحجاج والزوار والتجار والوافدين. ثم إن لنا عليهم حقاً فوق هذا كله، وهو أهم شيء تهمنا مراعاته؛ وذلك أن لنا في الديار النائية والقصية إخواناً من المسلمين ومن العرب، نطلب مراعاتهم وحفظ حقوقهم؛ فإن المسلم أخو المسلم، يحنُّ عليه كما يحنُّ على نفسه في أي مكان كان».
ولهذا كان شديد الحرص على التناصح والاتفاق واجتماع الكلمة ونبذ الفُرْقة والشتات، حتى يتمكن العرب والمسلمون من أداء واجبهم تجاه خالقهم وخدمة بلدانهم؛ إذ يؤكد في خطاب له في تكريم كبار الحجاج في 10-12-1359هـ (9-1-1941م): «وكل ما ندعو إليه هو جمع كلمة المسلمين واتفاقهم؛ ليقوموا بواجبهم أمام ربهم وأمام بلادهم، والذي نشهد الله عليه، ونحن أوسطكم في الإسلام وأوسطكم في العروبة، أننا ما ننام ليلة إلا وأمر جميع المسلمين يهمنا، يهمنا أمر إخواننا السوريين، وأمر إخواننا الفلسطينيين، وأمر إخواننا العراقيين، وإخواننا المصريين، تهمنا حالتهم ويهمنا أمرهم، ويزعجنا كل أمر يدخل عليهم منه ذل أو خذلان؛ لأننا نرى أنهم منا ونحن منهم، كما تهمنا بلاد المسلمين، وإننا نرجو الله أن يوقظ المسلمين من غفلتهم ليتعاضدوا ويتعاونوا».
فلله دره من قائد.. انظروا إليه وهو يذكر إخوتنا العرب والمسلمين في تلك الدول، وكأنه يقرأ من كتاب ما يخبئه المستقبل لإخوتنا هناك، وما يعانونه اليوم من مشاكل حقيقية في هذه المرحلة الحاسمة في تاريخنا.
وإذ يحرص عبد العزيز على هذا ليؤكد ضرورة العمل وتأكيد القول بالفعل لتحقيق الغايات، مشيراً إلى أن الإسلام بشهادة الميلاد لا يغني صاحبه أو يعفيه من المسؤولية؛ إذ لا بد من ترجمة هذا المعتقد بالعمل؛ إذ يقول في خطاب له في مكة المكرمة في (1-3-1346هـ): «نحن نقول إننا مسلمون، وإن ربنا الله، وديننا الإسلام، نقول إن كتابنا القرآن، وإن نبينا محمد، ولكن القول بذلك وحده لا يكفي». نافياً بشدة نظرية المؤامرة التي اتخذ منها العرب والمسلمون اليوم (شماعة) لتبرير عجزهم عن اللحاق بركب الحضارة والإسهام في خدمة البشرية؛ إذ يؤكد في خطابه في 1-12-1347هـ (11-5-1929م) الذي أشرت إليه سابقاً: «إن المسلمين متفرقون اليوم طرائق بسبب إهمالهم العمل بكتاب الله وسُنة رسوله، ومن خطأ الرأي الذهاب إلى أن الأجانب هم سبب هذه التفرقة وهذه المصائب. إن سبب بلايانا من أنفسنا لا من الأجانب.
إذن فاللوم واقع على المسلمين وحدهم، لا على الأجانب. إن البناء المتين لا يؤثر فيه شيء مهما حاول الهدامون هدمه إذا لم تحدث فيه ثغرة تدخل فيها المعاول، وكذلك المسلمون، لو كانوا متحدين متفقين لما كان في مقدور أحد خرق صفوفهم وتمزيق كلمتهم».
أجل.. هذا هو عبد العزيز الذي لم يكن يمارس دوره من منبر الخطيب، فيأمر الناس بالبر وينسى نفسه، بل يؤكد أنه مجرد مجاهد في سبيل الله، لا يستغني عن النصح والتوجيه والإرشاد، مقسماً أنه يتبع الحق أنّى وجده، كما يؤكد في خطابه في مبنى وكالة المالية بالطائف في 18-1-1351هـ (24-5-1932م) الذي أشرت إليه آنفاً، مخاطباً رؤساء القوم وقادة الأمة وكبار رجالاتها: «أنتم رؤساء البلاد وقادة الأمة وكبراؤها، وأدرى بما يحسون به وما يشعرون، ويجب عليكم أن ترفعوا إليّ كل ما يتظلمون منه، وترشدوني إذا رأيتموني ضللت عن طريق الحق، وإذا لم تفعلوا ذلك فأنتم المسؤولون. وإني أطلب منكم ومن غيركم أن من رأى مني شيئاً مخالفاً فليوضحه لي وليرشدني إلى طريق الحق، وليكن كما قال عمر بن الخطاب لمن أراد أن ينصحه: (فليكن ذلك بيني وبينه)، فوالله إذا رأيت الحق أتبعه لأني مسترشد ولست بمستنكف، ومن رأى شيئاً وكتمه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين».
أجل.. هذا هو عبدالعزيز الذي حارب الشبهات وأزالها، ولم يكن يبتغي عُلواً في الأرض، أو ادعاء الرئاسة على الناس أو المطالبة بها، بل كان همه الأول والأخير جعل كلمة الله هي العليا، غير مبالٍ بما يعترض طريقه من مصاعب، ويواجهه من عقبات في سبيل أداء رسالته.
أجل.. هذا هو عبد العزيز الذي كان يرى في كبيرنا والداً له، وفي أوسطنا أخاً، وفي صغيرنا ولداً. ولا يبرئ نفسه أو يدعي الكمال، ويعترف بأنه مثله مثل سائر البشر.. يخطئ ويصيب، ويغترف الذنب، ويطمع في رحمة الله، ويرجو غفرانه، كما أكد في خطابه الذي ألقاه في حفل تكريم كبار الحجاج، في غرة ذي الحجة عام 1352هـ (17-3-1934م) إذ يقول: «... أنا لا أبرئ نفسي، فذنوبي كثيرة، أرجو من الله الرحمة والغفران، وإنما غاية ما أرجوه أن أكون صادقاً في القول والعمل، وفي الباطن والظاهر».
نعم.. هذا هو عبدالعزيز، القائد الرائد، الذي كان يرى أن خدمة الشعب واجب عليه، مؤكداً أنه يخدم شعبه بعيونه وقلبه، ويفديه بروحه، ولهذا كان شديد الحرص على الاتصال بشعبه والاطلاع على مشاكله والاستجابة لمطالبه.. ليس بواسطة الجواسيس والمخبرين، بل في مجلسه مباشرة، الذي يشرع أبوابه يومياً لكل قاصد، دون حجاب أو واسطة تسمح لهذا وتمنع ذاك. إذ يؤكد في خطابه الذي ألقاه في الحفل الذي أقامه في جدة تكريماً لوجهاء المنطقة وأعيانها في 25-1-1355هـ (17-4-1946م): «إني أود أن يكون اتصالي بالشعب وثيقاً دائماً؛ لأن هذا أدعى لتنفيذ رغبات الشعب؛ لذلك سيكون مجلسي مفتوحاً لحضور من يريد الحضور، من الساعة الثانية إلى الساعة الثالثة ليلاً. وفي حالة غيابي سيكون مجلس نائبنا مفتوحاً لهذه الغاية بدلاً من مجلسنا، سواءً كان في مكة أو في الطائف، وإذا كان في هذا مشقة على الناس، إلا أن فيه مصلحة لا تخفى عليكم.
أنا أود الاجتماع بكم دائماً؛ لأكون على اتصال تام بمطالب شعبنا، وهذه غايتي من وراء هذا الاتصال.. نسأل الله أن يوفقنا لما فيه الخير لهذا الوطن العزيز».
أجل.. ذاك هو عبد العزيز بن عبدالرحمن الفيصل آل سعود - طيّب الله ثراه - مؤسس هذا الكيان الشامخ الراسخ، صانع مجدنا وموضع فخرنا وعزنا، الذي لم يكن يرى في الدنيا واجباً أعظم من توحيد الله والعمل على إعلاء كلمته، ولا نسباً أعز من الإسلام، ولا غاية أسمى من توحيد كلمة العرب والمسلمين ورفعة شأنهم.. نعم، ذاك هو عبدالعزيز الذي صلحت نيته فصلحت رعيته بصلاحه، السلفي، العابد الزاهد، الراكع الساجد، الذي أدرك عظمة نعمة الإسلام منذ أن رأى الشمس، وعمل على تمثلها في نفسه، فجعل الإسلام نبراسه الذي يهتدي به في كل أعماله، وحقق أهدافه السامية، المتمثلة في التمسك بالعقيدة وتطبيق الشريعة الإسلامية والدفاع عنها، ونشر الأمن، وتأسيس مجتمع موحد، يسوده الرخاء والاستقرار.
ولا غرو في ذلك؛ فقد تأسست الدولة السعودية الأولى، منذ ثلاثة قرون إلا قليلاً، على أساس راسخ من الالتزام بمبادئ العقيدة، إثر لقاء الدرعية التاريخي بين الإمام محمد بن سعود والشيخ محمد بن عبدالوهاب عام 1157هـ (1744م).
وبعد: كلما غاص باحث في جانب من جوانب شخصية المؤسس أعياه البحث، وأضناه المسير دون أن يستطيع الإحاطة بمميزات شخصية المؤسس وتفردها وثرائها في هذا الجانب أو ذاك.
ولهذا أحسن بولس سلامة (شاعر ملحمة عيد الرياض) صنعاً عندما وصف الملك عبدالعزيز بـ(الرجل الأمة)؛ إذ لم أجد وصفاً أبلغ من هذا وأقدر على التعبير عن مواهب عبدالعزيز وشخصيته الثرة النادرة.. فجزى الله المؤسس عنا وعن العرب والمسلمين خير ما يجزي عبداً من عباده الصالحين.
(*)مدير إدارة الثقافة والتعليم للقوات المسلحة