لم يكن غريباً أن تتفجر الثورة في سورية، بل الغريب والمخالف لنواميس الكون أن لا تنفجر فإن كل أسباب الثورة كانت موجودة على أرض سوريا، وكل الضغوط التي تؤدي إلى الانفجار كان يرزح تحت وطأتها الشعب السوري، الذي
يحكمه على مدى أكثر من خمسين عاما حزب البعث سيئ السمعة الذي اشتهر ببيعه الجولان جهاراً نهاراً للدولة العبرية منتقصا من سيادة سوريا من أجل إمساكه بالسلطة حتى على حساب إهانة كرامته وهذا ما فعله الأسد (الأرنب) الأب والأسد (الفأر) الابن، وكلا الرجلين الفاسدين عجزا عن مواجهة إسرائيل رغم ادعاءات البطولة الزائفة، لكنهما نجحا في اضطهاد الشعب السوري وتكميم أفواهه وقهره والبطش به وقد انتشر الفساد في عهديهما كما انتشر الظلم والفقر والبطالة والمرض، ليصدق عليهما مقولة (أسد علي وفي الحروب نعامة).
إن النظام السوري فاسد مفسد، نظام أسلم شعبه للظلم والجوع والتهتك والفساد وقد سلط هذا النظام جنده على رقاب الناس يسومونهم سوء الذل، وعنت القهر، وأصناف العذاب، بلا رحمة ولا رأفة، ولا خوف من الله ولا وازع من دين أو ضمير أو إنسانية، فأصبح الشعب السوري في ظل هذا النظام يعاني من فساد النظام الحاكم الدكتاتوري الشمولي المتسلط الذي طبق ويطبق قانون الغاب الذي خرج من رحمه طبقات ارستقراطية منتمية للحزب الخبيث سيطرت على اقتصاد البلاد واحتكرت حركة التجارة لتزيد معاناة الشعب من غلاء الأسعار واختفاء الطبقة الوسطى التي أنهكتها الرشاوى والمحسوبية، لتنضم إلى طبقة الفقراء في بلد غني بالثروات ولكن شعبه يعاني العوز.
هذا النظام الفاسد ظل يزج الآلاف في سجونه البغيضة ومعتقلاته الوحشية سنين عددا وهم لا يعرفون لماذا هم هناك، ويمارس أسوأ أنواع الإرهاب، وأبشع صنوف التعذيب النفسي والجسدي تحت عباءة قانون الطوارئ البغيض الذي منح حزب البعث منذ تأسيسه حقاً مطلقاً، لاعتقال من يريد، وتعذيب من يريد بل وقتل من يريد بلا محاكمة.
فخلال حكم الأسد الأب كان الحكم فرديا مطلقا، لا يقبل معارضة، ومن يجهر برأيه كان مصيره الموت وارتكب الرجل الهالك جرائم بشعة ضد الشعب السوري ومنها مجزرة حماة التي راح ضحيتها عشرات الألوف ودمر فيها المدينة على رؤوس أهلها من أطفال ونساء وشيوخ ورجال، وسوف تبقى تلك المجزرة صفحة سوداء في تاريخ الرجل الذي كل صحائفه سوداء حالكة السواد، والجرائم الكبرى التي ارتكبها ضد المواطنين السوريين في طول البلاد وعرضها لا تعد ولا تنسى.
وبعد هلاك الأسد الأب خلفه ابنه فتحولت السلطة بالتدريج من حكم فرد واحد مطلق إلى طبقة حاكمة تتمثل بأسرة الأسد، ومجموعة من الفاسدين المفسدين، وليته كان مع القهر وكتم الحريات واضطهاد الناس شيء من دعة العيش، ولكن الحاصل أن الإنسان السوري كان يعاني البطالة والفقر والعوز بجانب البطش والقهر.
منذ فرض قانون الطوارئ منذ عام 1963م عند استلام حزب البعث للسلطة إثر انقلاب قام به وعرف باسم ثورة 8 آذار/مارس، حتى اليوم أحكم الحزب يده على السلطة وأخذ يقمع أي شكل من أشكال المعارضة أو إبداء الرأي، وأصبح نظاما بوليسيا متسلطا يحكم قبضته على الناس ويعد انقسامهم من خلال القوات النظامية المتمثلة في الاستخبارات العسكرية، المخابرات العامة، استخبارات سلاح الطيران، مديرية الأمن السياسي، القوات النظامية في الجيش والبحرية وسلاح الطيران ناهيك عن (الشبيحة) الذين جندهم الأسد لقتل الشعب السوري.
وهذه تركيبة بوليسية قهرية فاشية لا توجد حتى في ظل النظام الشيوعي المعقد الذي خرج نظام الأسد من رحمه لكنه تغلب على نظرية سيده في البطش وانتهاك حقوق الإنسان.
استمر نظام الأسد على هذه الحال ببث الرعب في قلوب الناس ونشر الجواسيس بأعداد كبيرة حتى ما عاد الأخ يأمن أخاه، ولا الابن يأمن أباه، فكل إنسان خائف من كل إنسان، ولا ينطق ببنت شفة عن البعث ونظام الحكم خوفا على نفسه وأهله.
كان الشعب السوري يغلي من الغيظ، وكانت عوامل الثورة تتولد في داخله وتزداد وبقي السوريون على هذه الحال حتى تفجرت ثورة تونس ثم مصر وليبيا واليمن لينتفض الشعب السوري كاسرا حاجز الخوف وتحديدا في الخامس من مارس 2011 عندما أعلن غضبه وطالب الأسد بالرحيل، ومنذ ذلك التاريخ استشهد على يد الأسد وقواته بجميع فروعها البوليسية حوالي (9) آلاف إضافة إلى آلاف الجرحى والمعاقين والمفقودين، ونزح أكثر من (200) ألف إلى الداخل السوري، وأكثر من (80) ألف إلى الأردن، (20) ألف إلى كل من تركيا ولبنان والحبل على الجرار، ناهيك أن الاقتصاد السوري في طريقه إلى الهاوية!!
ولم يتعلم النظام في سوريا من درس ثورات تونس ومصر وليبيا واليمن وبدلا من محاولة الإصلاح واجه الثوار بالأسلحة الثقيلة من دبابات وطائرات وجرد جيشا جرارا لقتل الشعب وليس لمواجهة إسرائيل وقالت اللجنة السورية لحقوق الإنسان: (إن سلطات الطوارئ تجاوزت صلاحياتها الاستثنائية في توقيف الأفراد احتياطياً، إلى اعتقال المواطنين وتعذيبهم حتى الموت، في كثير من الأحيان، واعتقال أعداد هائلة من المواطنين في السجون لأكثر من ثلاثة عقود دون مبرر، بالإضافة لاعتقال الأطفال والقصر والمسنين على حد سواء.
أما الهيئة الدولية المستقلة التابعة للأمم المتحدة التي كلفت بتقصي الحقائق على أرض الواقع في سوريا فقد قامت بعملها رغم العقبات التي واجهتها من النظام السوري وأصدرت تقريرها في الثاني والعشرين من شهر فبراير الماضي الذي جاء مؤكداً ارتكاب الأسد ونظامه وجيشه جرائم ضد الإنسانية خلال أشهر الثورة، وفي يوم الخميس الماضي تبنى مجلس الأمم المتحدة لحقوق الإنسان الذي انعقد في جنيف قراراً صريحاً يدين الانتهاكات التي تزداد خطورة لحقوق الإنسان في ذلك البلد بناء على ما جاء بالتقرير الذي أعدته الهيئة العامة المستقلة التابعة للأمم المتحدة.
إن الجرائم التي ارتكبها الأسد ورجاله وجيشه لا تقل خطورة عن جرائم النازي هتلر ضد الإنسانية والتي برزت بعضها في محاكمات (نور مبرج) بعد نهاية الحرب الكونية الثانية، التي هلك فيها عشرات الملايين من البشر.
واليوم تتصدى محكمة الجنايات الدولية التي جاء تأسيسها عام 2002 في مادتها (السابعة) لبيان الجرائم ضد الإنسانية ومنها القتل والخطف والتعذيب والتصفيات السياسية والاعتقال التعسفي وانتهاك الأعراض بشكل منظم هذه الجرائم التي شرحت مفهومها اللائحة التفسيرية لنظام المحكمة الأساسي بقولها إن تلك الجرائم تعني الاعتداء على كرامة الإنسان وإهانته وتحطيمه.
وهذه الجرائم وأفدح منها ارتكبها الأسد والقيادة السورية والجيش السوري عمداً فتوفرت جميع أركان تلك الجرائم في حقهم، وينطبق عليها نظام محكمة الجنايات الدولية الأساسي ولائحته التفسيرية باعتبارها (جرائم ضد الإنسانية) وغيرها من الجرائم الخطيرة غير المسبوقة.
إن الواقع المعاش على أرض سوريا اليوم يؤكد بما لا يدع مجالا للشك أن الأسد وزمرته ارتكبوا ما ارتكبوا من جرائم بشعة خطط لها مع إصرار على قتل المدنيين وتدمير منازلهم على رؤوسهم، غير عابهين بالدول العربية والمجتمع الدولي، رغم أن العرب قدموا طوق نجاة للأسد وزبانيته من خلال مبادرة واضحة وصريحة لحفظ ماء وجه الرجل لكنه تمادى في غيه فرفض المبادرة ليفقد ثقة العرب الذين بادروا بناء على دعوة خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز بسحب سفرائهم من دمشق، بل إن المملكة ومعها العرب ذهبوا إلى أبعد من ذلك فنقلوا القضية إلى مجلس الأمن الذي اصطدم قراره بالفيتو اللعين من الدب الروسي والتنين الصيني، وإذا كانت الأمم المتحدة قد أصدرت قرارها بإدانة سوريا وقادتها، فإن قرارها غير ملزم لكنه علامة فارقة بأن نظام الأسد فقد شرعيته وبدأ العد التنازلي للرحيل الذي لن يكون بعيداً.
إن الأسد لم يستفد من عبر هذا الزمن المتغير سريعاً ودروسه فقد سبق أن عرضت الإدارة الأمريكية على القذافي ملاذاً آمناً فرفض ولقي حتفه، والرئيس اليمني السابق علي عبد الله صالح قبل مبادرة دول المجلس بقيادة المملكة فنجا بنفسه، وبن علي هو الآخر عندما ثار شعبه وطلب رحيله استجاب وفر مسرعا ومبارك ركب حصان العناد فوقع في (المصيدة) التي لا ترحم، وسيكون مصير الأسد وزملائه أسوأ بكثير بعد رفضه ملاذا آمنا وركوب صهوة العناد والتشبث بالسلطة (اللعينة) فكم أغوت من قادة كبار حتى أعمتهم عن رؤية الحقيقة.
إن القانون الدولي وقوانين حقوق الإنسان وقانون المحكمة الجنائية الدولية هي بالمرصاد لكل طاغية يفتك بشعبه، ولذا لم يبق أمام العرب في ظل عناد الدب الروسي والتنين الصيني إلا أن يشمروا عن سواعدهم لنقل الملف إلى محكمة الجنايات الدولية، فهي المحكمة الرئيسية للوقوف في وجه المجرمين لمعاقبتهم على ما ارتكبوا من جرائم، وهي (المحكمة) التي من واجباتها المنوطة بها طبقا لقانونها الأساسي ملاحقة مجرمي سوريا وإرغامهم على احترام قوانين حقوق الإنسان وقوانين الحروب وإيقاع العقاب الرادع عليهم جراء ما ارتكبوه من جرائم ضد الإنسانية على مدى أكثر من خمسين عاما.
رئيس مركز الخليج العربي للطاقة والدراسات الإستراتيجية
dreidaljhani@hotmail.com