-تحيّرت في الأمر حقيقة وأنا أكتب هذا المقال؛ فسألت نفسي: من يتولى رعاية وتطوير (القلعة)؛ بعد ذهاب صاحبها ومؤسسها وبانيها..؟
- هل تجد الرعاية من سمو أمير منطقة مكة المكرمة (الأمير خالد الفيصل)، الذي عوّدنا على
رعاية ودعم المشاريع الثقافية والفنية، وخاصة الفردية منها..؟ أم تجدها من سمو (الأمير سلطان بن سلمان)، والهيئة العامة للسياحة والآثار، كون هذا من شأنها ومن اختصاصها..؟ أم تجدها من أمين وأمانة جدة، فجدة مدينة ثقافية وفنية بامتياز، لكنها تفتقر إلى متحف فني وثقافي كهذا..؟
- القلعة.. أو- (قلعة الفنون)- كما سماها مؤسسها، هي هذا الإرث الثقافي التراثي الفني التاريخي، الذي تركه صاحبه ومؤسسه وبانيه، المرحوم الموسيقار العميد (طارق عبد الحكيم)، بعد أن غيَّبه الموت قبل عدة أيام.
- تركه في داره الخاصة بجدة، بعد عقود طويلة من العمل المضني لجمع كل ما يتعلّق بالفنون الموسيقية والشعبية والتراثية في المملكة والجزيرة العربية والخليج. أغان وأهازيج، وعرضات وردح، وكلمات وأشعار وألحان، ومدوّنات لنوتات وألحان عربية وأعجمية، وملابس خاصة بفن زمان، وفرق زمان، وأهل زمان. آلات وترية وخشبية ونحاسية وجلدية وخلافها، مما عرفه الناس منذ مئات السنين على هذه الأرض. اسطوانات زمان، و(بكمات) زمان، وراديوهات وتلفزات وخلافه. عُقُل وغتر وأحزمة وملابس مقصبة لفرق شعبية من كل لون، على رأسها المجرور الطائفي الشهير، الذي عرفه طارق عبد الحكيم منذ نعومة أظفاره، ثم طوره وأدخل عليه الموسيقى لأول مرة.
- إذا أردت أن تعرف ثقافة الناس، وطريقة حياتهم في الجزيرة العربية والخليج، في مئات من السنين مضت، وخاصة أشعارهم وغنائياتهم وطربهم وفنونهم الشعبية، وكيف يؤدون هذه الفنون، وماذا كانوا يلبسون لها.. إلى غير ذلك، فما عليك سوى زيارة (قلعة الفنون).. التي هي قلعة بمعنى الكلمة: (Castle). لم يعرف قدرها حتى اليوم، إلا صاحبها ومؤسسها الفنان الكبير، عميد الفن والموسيقى طارق عبد الحكيم.
- كان يكفي هذه القلعة الفنية الشاملة، أن تعرض أعمال صاحبها التي ناهزت الـ (500) عمل فني، كلها من ألحانه وأغانيه وأهازيجه ومجاريره وكسراته وحدرياته ومجالسياته، إضافة إلى صوره مع زعامات وقيادات سياسية وأدبية وعسكرية وفنية لأكثر من ثمانية عقود، وما حازه من نياشين وجوائز وكؤوس ودروع وشهادات، وما كتب عنه، وما عرض له وسجّل له.. إلى غير ذلك.. إلا أن قلعة طارق عبد الحكيم الفنية، فوق هذا كله، لأنها تؤرِّخ لعدة مراحل في هذه البلاد عبر قرون مضت، وليس لمرحلة آنية.
- بوسعي أن أكتب عن البدايات الفنية للعملاق طارق، وعن باب الشهرة الذي فتحته له من القاهرة في الخمسينيات الميلادية من القرن الماضي، أغنية (يا ريم وادي ثقيف)، بعد أن ولدت بالطائف بينه وبين الشاعر الكبير المرحوم (الأمير عبد الله الفيصل)، ثم سجّلها على اسطوانة ووزعت من هناك لتصبح شغل الصحافة العربية الفنية آنذاك، وأن أتنقل في الحديث بين أعماله ونجاحاته التي تجاوزت به محيطه إلى آفاق عربية وعالمية، وعن ريادته في فتح أول مدرسة موسيقية عسكرية بالطائف، لكني أعرف أن (طارق عبد الحكيم)، هو من المشاهير والأعلام، ويعرفه الكثيرون من خلال ألحانه وأغانيه وحضوره الإعلامي المميز حتى آخر أيام حياته، لكن أبا سلطان- غفر الله له- ليس ملحناً ومغنياً فقط، إنه موسوعة فنية وثقافية، وأستاذ لعدد كبير من المشاهير في المشهد الفني اليوم. أتحدث عن (قلعة الفنون) تحديداً، لأنها هي التي تعبّر عن موسوعية طارق عبد الحكيم، وعن وطنيته وتضحياته من أجل الفن، وتحقق حلمه في حفظ تراث هذه البلاد وثقافتها الفنية والشعبية، ويندر أن يوجد فنان مثل طارق عبد الحكيم، اعتنى بهذا التوثيق التاريخي الثقافي الفني، أو بذل جهده وماله وحياته لإحيائه وإبرازه بهذا الشكل الذي هو عليه في (قلعة الفنون).
- منذ عامين فارطين، أقام (منتدى السالمي الثقافي)، حفلاً تكريمياً للموسيقار طارق عبد الحكيم في بلاد بني سالم بالطائف، ولعل المزارع والحقول التي تحيط بمقر المنتدى، هي التي ذكّرت طارق عبد الحكيم ببداياته الأولى في المثناة، فقد فاجأ الحضور الذين تجاوز عددهم المئة في تلك الليلة، من مثقفي وفناني الطائف ومكة وجدة والمدينة وحتى الرياض، أنه بدأ حياته فلاحاً وراعياً وبائع خضار، وأنه كان يستمد ألحانه من غنائيات رعاة الماشية والمزارعين في حقولهم حول الطائف الذي ولد وترعرع فيها.
- إن (طارق عبد الحكيم) - رحمه الله- هو ابن هذه الأرض الطيّبة، ولهذا اهتم بتوثيق فنها الأصيل وتراثها الجميل. بدأ في تكوين قلعته الفنية في داره في الطائف، ولما تديّر جدة في أواخر حياته، اقتلع القلعة من الطائف إلى حيث داره بجدة، وكأنه كان غضباً من عدم اكتراث الطائف لهذه القلعة، وكان الحق معه في هذه الغضبة. لقد عمل جهده منذ البدء، لتكون هذه القلعة داراً لتاريخ الفنون، وقلعة لأصالة الفنون، وما لم ننظر إلى هذه القلعة الفنية بعين مؤسسها وبانيها، فسوف تهوي على ما فيها من كنوز ثمينة.
- امتاز أبو سلطان بخلق جم، وإنسانية فوق الوصف، ظل رحمه الله منبسطاً ومبتسماً حتى في أشد الظروف المرضية التي مرت به، وظل طيلة حياته يبني ويعلي من (قلعة الفنون)، بجهود ذاتية بحتة.
- لقد حان وقت استلام الأمانة، من قبل مَن هم أهل لها. قلعة الفنون ينبغي أن تأخذ مكانها الذي يليق بها على التراب الوطني الذي أسست منه ومن أجله.
- وداعاً (طارق عبد الحكيم). لن (تبكي على ما جرى لك) بعد موتك. (قلعة الفنون) باقية إن شاء الله.
assahm@maktoob.com - Assahm1900@hotmail.com