لئن كان الموتى يرحلون لمثواهم الأخير مرة واحدة في عمرهم؛ فإن رحيل أمي يتجدد سنويا ولو قلت يوميا لما بالغت ! ففجيعة رحيلها جمرة تتلظى في قلبي وجرح لم يندمل ونزف لا يتوقف.
ومنذ توفيت الوالدة قبل عشرين عاما في رمضان المبارك 1412هـ والدمعة تترقرق في عيني منذ رحيلها. حتى أجدني - وأنا في هذا العمر - أنهمر في بكاء مرير ساعة تذكري لحظات وجودها قربي.
فلم تكن أمي فحسب بل صديقتي ومخبأ أسراري وملهمتي في مسيرتي، والقوة الدافعة لي بتشجيعي على القراءة والعلم والاطلاع، وتحمّل المسؤولية وعدم التواني والكسل برغم أنها لم تكن تقرأ ولا تكتب، كما أن الأوضاع الاقتصادية لا تؤهلها لتوفير الكتب والمجلات آنذاك، ولم تكن شخصيتها نافذة أو مسيطرة، بل إنها خجولة لدرجة ضياع حقوقها.
وإن حدثتكم عن العاطفة المتبادلة بين أم وابنتها فكأنني أتحدث عن علاقة من نسج الخيال! فقد كنت ملازمة لها طيلة طفولتي وجزءاً من شبابي، وأتلذذ بالجلوس معها وشرب القهوة سويا حتى أنني أفزع من نومي السادسة صباحا حيث لا تنام بعد الفجر، وأستغل الوقت للجلوس ولتبادل الأحاديث الشيقة معها. فكانت رحمة الله عليها تمتن لهذا ـ ولها المنِّة والفضل ـ فترفض أن أصب لها القهوة حين نكون سويا وتقوم به بكل حنان وتقدير برغم غضبي حينا ورفضي أحايين كثيرة، حتى لكأنها تصبها لضيف كبير مما أوجد في نفسي الثقة وأدخل فيها حب العزة والسمو والشموخ مع تواضعي التام وخضوعي لأمي دوما وطاعتي المطلقة لها وعدم الاستغناء عنها واستشارتها والأخذ برأيها. وكانت تكيل لي المدح والثناء على هيئتي وتصرفاتي مما صرفني عن سماع أي مدح أو إطراء من غيرها وجنبني ذلك استغلال عاطفتي المتدفقة وساهمت بعد توفيق الله بعدم وقوعي بما يمكن أن تقع به المراهقات، وتحمَّلت مسؤولية التربية كاملة لوحدها بعد رحيل والدي رحمه الله.
وكانت أحلامها بسيطة وطموحاتها الستر والعافية لها ولأبنائها وللمسلمين، وأن ترى أحفادها؛ وقد أكرمها الله بقبيلة من الأحفاد في حياتها وبعد مماتها. فقد نشأت يتيمة الأم حين توفيت والدتها بعد إنجابها، وعاشت على الكفاف. وأذكر قلة ملابسها واحتياجاتها حين جمعناها بعد وفاتها وكأنها احتياجات مسافر لأقل من أسبوع! وقد علمتني أن لا أستكثر من الملابس حتى لا يشقى أحد بعد وفاتي بجمعها، وألا يكون عقلي متوجها نحو تكديس الملابس حيث إنها تبلى وتتمزق أو يمل منها! فكانت تقول (من عقله ثوب يتقطع!) وكانت شديدة الولع بالنظافة وترى أنها نور في الوجه ومحبة عند الناس، كما أوصتني ألا يكون همي الأكل والشرب، ولو طلبهما سائل فلأعطيه إياهما وأصبر على الجوع والعطش فقد يكون أحوج مني، ويبقى لي ذِكرا ورصيدا مع الخيرين. وكانت تنهي عن جمع المال بقولها (راعي القليل أكله، وراعي الكثير راح وتركه) وكانت حكيمة بالخبرة ومثقفة بالفطرة، فلا تقول نصيحة إلا وربطتها بمثل أو مقولة مأثورة، وتشدد دوما على رد أسئلة الفضوليين بعبارة (لا أدري) حيث لا عواقب لها.
وأجد نفسي دوما أردد عبارات والدتي وأتقمص شخصيتها وأحاكي تصرفاتها، وأتلذذ بترديد تلك العبارات حتى ولو كنت لوحدي. وأتمنى لو امتد بها العمر لأبرَّ بها، ولعل هذه المقالة نوع من البر وترديد الجميل، فجميلها لا أستطيع أن أرده ولو حرصت.
فعليك رحمة الله ما ردد المسلمون الدعاء، وعليك رحمة الله بقدر حزني عليك وفقدي لك يا أغلى من سكن في قلبي ولم يبرحه.
rogaia143@hotmail.comwww.rogaia.net