عندما كنت أدرس في الولايات المتحدة أواخر السبعينيات، زارني والدي -رحمه الله- وقد أعجبته البلد التي كنت أعيش فيها، فرغب أن يحضر أخي الأصغر ليكمل دراسته عندي، حيث كان متميزاً في تحصيله، ورأى والدي أن ذلك سيكون بمثابة دفع له ليبرز في تعليمه، فبادرت بتنفيذ رغبته -رحمه الله، وقد تكرم أحد الزملاء من ذوي الألقاب الرفيعة برفقتي بالذهاب لإدارة التعليم بشمال كاليفورنيا، وكانت لا تبعد عن بلدتنا سوى أميال معدودة. كنت أظن أن رفقة زميلي سوف تحظى بالتقدير من مدير الإدارة وبالتالي تسهل الأمور العصيبة. وعند دخولنا مبنى الإدارة وإبلاغنا موظفة الاستقبال برغبتنا في مقابلة المدير للغرض الذي أوضحناه لها، قالت «لا حاجة لكم عند المدير فحاجتكم هي عند السيدة (كولمان) وهي في الصالة (C3) منتصف الممر على اليسار»، فذهبنا حيث أشارت، وعندما دخلنا الصالة والتي كان بها ما لا يقل عن (20) موظفة وموظفاً معظمهم صوب نظره نحونا في استفهام صامت، فبادرت بمناداة السيدة (كولمان) التي رفعت يدها بين الموظفين لتدلنا لمكانها، فأقبلنا عليها وشرحت طلبي لها وقدمت صاحبي بالصورة التي أطمع في أن أوثر بها. وقد كانت امرأة دمثة الأخلاق فرحبت بنا جميعاً، ثم أخرجت بعض النماذج وقالت لي «أذهب هناك على تلك المنضدة واملأ البيانات الخاصة بشقيقك وتأكد أن تكون مطابقة لجواز السفر حتى لا يلاقي مصاعب في الحصول على التأشيرة». وفعلاً فعلت ثم عدت لها وسلمتها تلك النماذج وقلت «لدي صورة من شهادته الدراسية مترجمة ومصدقة وصورة من جواز سفره وأنا على استعداد لإحضار ما تطلبون من أوراق»، فتبسمت وقالت «لا داعي لكل ذلك فالنماذج هذه كافية، ولكن الأمر سيستغرق بعض الوقت، لذا أقترح أن تذهب وصديقك إلى المقهى المجاور لإدارتنا وبعد نصف ساعة تعود لي لاستكمال الإجراءات». وفعلاً ذهبنا وكنت أقول لصديقي «ربما أني استعجلت في الاستعانة به مبكراً وكان يجدر بي أن أوفر ذلك عندما يصل الطلب لدى المدير، فالموضوع كما يبدو سيطول». وبعد أكثر من نصف ساعة عدنا للسيدة (كولمان) حيث توقعنا أن تعطينا رقم المعاملة وتطلب منا المراجعة بعد شهر، ولكن المفاجأة هي أن السيدة (كولمان) سلمتني ظرفاً مقفلاً، وقالت «هذا الظرف هو النموذج (I-20) ترسله لعائلتك فيُسلم للسفارة الأمريكية في بلدكم عند طلب التأشيرة لشقيقك، وقد حددنا له مدرسة (San Mateo junior High School) وهي موضحة على الخريطة اتي أعطيتك مع الظرف، دعه يحضر مبكراً قبل بداء الدراسة حتى يعتاد على نظام البلد ويتعرف على الطريق للمدرسة أو إن شئت تلحقه بالنقل المدرسي إن كان مكان الإقامة بعيداً عن المدرسة، هذا كل ما تحتاجه وأتمنى له التوفيق». كنت مندهشاً فقلت «أهذا كل شيء؟ لا تحتاجون لأوراق آخري؟!» فقالت «هذا كل شيء، أتمنى له التوفيق، وطاب يومكم». خرجت وصاحبي من تلك الإدارة التي تدير شؤون ما يزيد عن (15 ألف مدرسة وتشرف على تعليم ما يزيد عن (3 ملايين طالب). وقلت لصاحبي «يؤسفني أنني لم أستخدم شفاعتك ولكن أنا متأكد أن بركتك قد قامت مقام الشفاعة». توفي والدي في تلك السنة ولم يتمكن أخي من الدراسة في أمريكا لتلك الظروف.
تعود هذه القصة لأكثر من ثلاثين عاماً مضت ولا زلت أعود البلدة نفسها كل عام في الصيف، ومنذ ثلاثة أعوام ذهبت لقيد ابنتي في المخيم الصيفي الحكومي بمدينة (San Mateo) وكان في المدرسة نفسها التي كان سيدرس فيها آخي، وذكرت القصة للمشرفة على المركز وكنت أقول لها «كم كانت الأمور بسيطة آنذاك، فلابد أنها تعقدت الآن» فقالت «قليلاً، فقد باتوا يطلبون الآن سجل التطعيمات الصحية، عدا ذلك لم يتغير شيء». أنا هنا لا أريد أن أقلد -طيب الذكر- الأستاذ أحمد الشقيري، ولكن أتسأل عن مصير تلك الأوراق وصور الشهادات والنماذج التي نحشوها ملفات التقدم لأي طلب خدمة من إدارة حكومية، ومن يطلبها؟ ومن يقرأها؟ ومن يحفظها؟ وهل حفظها صحيح؟ وهل هي ما زالت موجودة في محفظها؟ أم أن الانتقال من مبنى لآخر خلفها وراءه؟، فالمعتاد عند انتقال جهاز حكومي لمبنى آخر أن تغص صناديق القمامة حول المبنى القديم بالملفات والأوراق، فهل أوراقنا تلاقي المصير نفسها ونحن أُجهدنا في إحضارها، وربما تكبد الكثير منا مشقة السفر، وكم من نفس أزهقت في الطريق لإحضار ورقة كانت ستنتهي لصندوق القمامة، وتسأل آخر هو لماذا نحتاج شفاعة ذي جاه في شأن هو حق لنا كمواطنين شركاء في الحقوق والواجبات؟ ما الذي يجعل ذلك الشافع أكرم مني عنده فلا أحظى بحقي إلا بجاهه؟ لماذا لا يكون الشافع إلا من لديه سلطة أو حظوة؟ فيدخر فضله كالعملة الصعبة في زمن الإفلاس، لماذا يتعامل المسؤولون من الموظفين بالمقايضة فيحتكررون الخدمات والصلاحيات في صورة ضمان للحصول على شفاعة مدخرة، حتى بات هناك قول لكثير من كبار الموظفين عندما يستشفع في أمر «اذهب لفلان فعنده لي معروف سابق»، إلا يصح ونحن في زمن التقنية أن يكون هناك تنظيم لهذا الأمر فيمكن أن يؤسس جهاز حكومي لإدارة الشفاعات (الواسطة) فمثلاً عند تعيين أي مسئول يفتح له حساب شفاعة، فيقيد عليه كل شفاعة يطلبها ويقيد له كل شفاعة يلبيها، ولا يجوز للمسؤول أن يكون سجل الشفاعة لديه بالناقص لمدة تزيد عن شهر فهذا يدل على أنه رجل قليل النخوة يستفيد أكثر مما يمنح. أما من يكون سجله صفراً لمدة تزيد عن السنة، فهذا موظف ملتزم بالنظام ولا مكان له بين ذوي الجاه، ولا شك أن أقاربه وأصدقاءه ومعارفه لا يتذكرونه إلا عند العيد والتعزية، فهو رجل قليل النفع لديهم.
القول المأثور «كما تكونوا يولى عليكم» هو تقرير في باطنه حث للمجتمع كي يتغير ليكون أفضل، فعندما يثق المجتمع بعضه ببعض ويسود فيه حسن الظن والمحمل على الصدق يبرز موظفون لا يحتاجون كثيراً من الأوراق الثبوتية والشهادات، فالثقة هي سيد الموقف. وعندما ينضبط المجتمع ويلتزم بالحق وينبذ الظلم والإثرة على الآخرين فسيبرز موظفون لا يستشفعون أحداً في معاملة لمواطن، ولن يكون هناك حاجة لجاه يُبذل في شأن بين مواطن وحكومته. لذا أهيب بكل من يستطيع تغيير أخلاق المجتمع من معلمين وموجهين وفقهاء وخطباء ودعاة وكتاب وصحفيين وممثلين ومؤلفين ورياضيين وفنانين، كل فيما يخصه ولدى من يسمعه، أن يكون القدوة في حسن الظن وحمل الناس على الصدق والالتزام بالحق ونبذ الظلم والزهد بالإثرة على الآخرين، وسيكون هناك دائماً من يستغل الناس بخبثه، فذلك الخبيث وهو لا خلاق له.
mindsbeat@mail.com