مقولة جليلة عظيمة، تماثل جلال قائلها وعظمته، إنه عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فاروق هذه الأمة وعظيمها، إنه العبقري الذي قال عنه الرسول صلى الله عليه وسلم: «لم أر عبقرياً يفري فريه»، يقول عمر: «لست بالخب، ولا الخب يخدعني»، الخب المخادع، وعمر بن الخطاب ينفي عن نفسه صفة المخادعة، لا يقبل البتة أن يكون مخادعاً، لأن المخادع خبيث بطبعه، ماكر في فعله، وهذه صفة ذميمة، لا يقبلها إلا لئيم عديم المرؤة والأخلاق، وحاشا عمر بن الخطاب أن يكون كذلك، إنه أجل وأكرم من أن يرضى لنفسه أن يكون مخادعاً، وفي الوقت نفسه لا يمكن لمخادع مهما كانت درجة لؤمه وخبثه ومكره وحيله، أن يتمكن من خداع عمر بن الخطاب، فهو أكبر وأعظم وأعقل من أن يخدعه أحد، مهما بلغ من درجات المكر وحيل اللؤم.
ومن هذا الباب، لا يمكن لأي إنسان حر يحب وطنه، إنسان فطن حاذق عاقل، كريم الأخلاق، جليل القدر والمكانة، أن يكون مخادعاً، يشوه الصور المليحة الجميلة ويدعو للإعراض عنها والتنفير منها، ويزين الصور القبيحة ويدفع إلى الرضى بها وقبولها، يعرض عن الحق، ويسلك سبل الباطل، يدعو الناس إلى أبواب الفتن ويسهلها لهم، الأبواب التي حذر الله منها ومن تبعاتها، لكونها أشد من القتل وأكبر منه، حذر الله من الفتنة لما يترتب عليها من فساد في الأرض، وإرباك للحياة المجتمعية، وتشويه وتخريب للمكتسبات والمنجزات، وزعزعة للأمن والأمان، الفتنة ملعون من يوقظها ويشعل أوار فتيلها، لأنها إن استيقظت فلن ترى إلا بعيون حول تشوه الحقائق والبصائر وتحولها إلى غير حقيقتها، وإن اشتعلت أحرقت الأخضر واليابس، فلن تبقي أحداً إلا أصابته، ولن تذر آمناً إلا روعته.
كما أنه لا يمكن لأي إنسان يحب وطنه ويخلص له، ينتمي له أرضاً وثقافةً وديناً، إنسان حر أبي أن يكون مطية يمتطيها مخادع لئيم عتل زنيم، أو يجعل نفسه معبراً لتمرير غايات المخادعين وأهدافهم التي حتماً تتعارض وتتصادم مع الغايات الكبرى للوطن وأهله.
المخادع في منتهى اللؤم، لأنه يسعى وراء مآربه وغاياته الخاصة، يتملق الآخرين من أجل أن يتسلق على أكتافهم، ويركب ظهورهم ويجلدها ليحقق ما عجز عن تحقيقه بالحق، إنه يعرف حقيقة نفسه ويقدرها حق قدرها، إنه أضعف وأجبن وأحقر من أن يواجه الأمور علانية، لذا يلجأ للمخادعة والمراوغة، إلى التمسكن وإثارة العواطف بالكلام المعسول، من أجل كسب مزيد من الأتباع ليتقوى بهم.
المخادع عتل، يجافي الحق ويكرهه، من أجل هذا يجند نفسه لجر الناس إلى الباطل والخروج، يحبب الباطل لهم ويحببهم فيه، يجرهم إلى مهاوي الشر والفرقة والتناحر والتدابر، في هذه الأجواء يجد العتل نفسه، في هذه البيئات يجد العتل مرتعه، لهذا لا يتوانى أبداً عن جر الناس إلى خارج أطرهم التي تحمي هويتهم، وتحافظ على أصالتهم وخصوصيتهم التي هي عنوان وحدتهم وتلاحمهم.
المخادع زنيم، لأنه ما أقدم على تضليل الناس وخداعهم، إلا لكونه يعد نفسه ليس منهم، لا ينتمي لهم، إنه يعد نفسه خارج إطارهم، لا يعترف بانتماءاتهم، ولا يؤمن بولاءاتهم، يكرههم ويتمنى لهم كل سوء ومكروه يمحق وجودهم ويمحي أثرهم، لهذا لا يجد ضيراً ولا حرجاً البتة في خداعهم وجرهم إلى مواطن الفرقة والفتنة، يقوم بهذا لأنه يهوى الشر لهم، ويسعد عندما يجدهم غرقى في أتون التناحر، يخربون بيوتهم بأيديهم، ويحرقون مكتسباتهم تحت شعارات زائفة، المخادع يغيب العقل ومعاييره، ويلجأ عوضاً عن ذلك إلى إثارة العواطف ودغدغتها بالشعارات الجوفاء التي تلهب في النفوس حماسة عمياء، لا تفرق بين الخطأ والصواب، بين الحق والباطل، بين المعقول واللامعقول.
أعود إلى مقولة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، كي نستنير بثاقب بصيرتها، ونهتدي بعظيم دلالاتها، العاقل ذو اللب لا يقبل بحال أن يكون خباً مخادعاً، ولا يقبل ولا يرضى لنفسه أن يكون مطية لخب مخادع، يستغله لزعزعة استقرار الوطن، وليخطف منه الأمن والأمان، المخادع يحرص أن يجد له ثغرة يلج منها ليفتح أبواب الفتنة على مصراعيها.
فيا أيها الحبيب إياك أن يؤتى الوطن الغالي من خلالك، ولا يخدعنك مخادع مهما كانت مسوغاته، فهو ماكر يتمنى زوال نعمتك.