انطلق القطار من محطة بون إلى بروكسل، بعد أن اتخذوا الركاب أماكنهم، وتمنطقوا بالأحزمة الواقية، وكنت بمكاني المجاور للنافذة أرقب خط سير القطار بعد أن أزحت ستار نافذتي، فكنت أرى المطر المنهمر بالخارج على التلال والوديان المعشوشبة كسجادة فارسية خضراء زاهية الألوان غالية الثمن، فكنت أحدث النفس عن هذه المناظر الجميلة ما بين غزارة المطر وسير البشر نحو أعمالهم بالقرى الريفية التي نمر بها، وكأنما الماء المنهمر على الرؤوس لا يعنيهم بشيء رغم إمساك البعض بمظلات واقية، ولا يعانون مثلي كرجل صحراوي يعاني من عقدة التصحر والجفاف لشح الأمطار والاخضرار.. كنت أرى على طول الطريق الأودية والأنهار والمزارع الخضراء المكتظة بالأبقار والأغنام الحلوبة التي امتلأت ضروعها بالألبان نتيجة ما ترعاه من أغذية عشبية صحية لا تعرف شيئاً اسمه الطب البيطري، كنت أرى كل ذلك من خلال نافذتي وأتحسر على جفاف مراعينا، وحالة أبقارنا وأغنامنا ذات الأجساد الهزيلة نتيجة غذائها الجاف ما بين التبن والذرة، فضلاً عن أكلها للكراتين والورق من الجوع، ناهيك عن غلاء أسعارها!!
قبل مغادرة القطار لمحطة بون تلك المدينة الصناعية الجادة، كنت بمطعم المحطة أود تناول وجبة الغداء التي حان أوانها، فوجدت ما لذ وطاب إضافة لبشاشة الخدم ورقي الخدمة الرائعة. وحينما اتخذت مكاني كنت أجيل النظر يمنة ويسرة، وأتطلع بوجوه رفقاء الرحلة الذين تهافتوا على المطعم تباعاً، مثنى ورباعاً، وإذ الكل من ذوي بشرة فاقعة الاحمرار، من نسل العرق الآري، ونسلٍ من خليط أوروبي.. فكنت أضحك بيني وبين نفسي؛ ما الذي حشرني أنا الوحيد الأسمر وسط هؤلاء؟ وهو الشيء اللافت للنظر! ولكن بعد برهة قصيرة أدركت أنه ليس أنا الأسمر الوحيد المتواجد بالمطعم وقد أكتظ المطعم برواده.
فكانت في ركن قصي بالمطعم تجلس غادة حسناء سمراء بمفردها، وتدندن بصوت خفيض بأغنية عربية، فاستمتعت ببعض الأغنية وغاب عن راداري البعض الآخر، غير عابئة بما حولها سادرة بالأغنية وقد لفت ساق على ساق، وكأن الساق البرونزي يتناغم مع إيقاع الصوت الجميل الخفيض، مع إضمامة شفاه كحبة كرز وجسدٍ ضامرٍ يكتنزه هندام موشٍ بالترف، وخفة ورشاقة كغزالة متحفزة للعدو.. ماعلينا!!
كانت رائحة التبغ الفاخر تشكل دوائر فوق الرؤوس والكل منهمكٌ بالحديث مع الآخر، وكأن الجميع في حفلة مجانية صاخبة دعي إليها الكل.
إلا أن الفرق بين مجانية الدعوة ودفع الفواتير، قد كان اليورو والدولار سيدي الموقف، فليس هناك بالسفر شيء بالمجان.
دفعت فاتورة عشائي واندفعت عبر الممر المؤدي لمقعدي وشرعت أقرأ في رواية (شرق المتوسط) للراحل عبدالرحمن منيف، فكان الزمن كاف أن أتى عليها، التي ما إن فرغت منها إلا وداهمتني سحابة من الهم والغم، وقد انداح في مخيلتي ما عانت منه بلداننا العربية من استعمار وطغيان واستبداد دام قروناً في الوطن العربي، فأعقبه مما زاد الطينة بلة كما يقول المثل.
حكم العسكر عبر الانقلابات العسكرية المستبدة التي جلبت للمواطن العربي الويل والثبور وعظائم الأمور والتخلف المأثور، والتي لا تزال بلدان عربية تعاني منه حتى اليوم، وبقيت على ماهي عليه في تخلف بلدانها!!
في محطة الوصول -بروكسل- نزل الكل برفق منتظم دون تدافع، فتذكرت حال المسافرين لدينا بالرحلات الجوية التي ما إن تلامس إطارات الطائرة أرض مطار الوصول إلا ويتدافع الكل كأنهم في سباق محموم نحو النزول، وعليكم أن تتخيلوا والحال عليه عند تدافع الركاب وأمتعتهم المحمولة والمسحوبة وكأن الكل يريد الخلاص من رحلته، ولعلهم معذورون فيما يلاقونه من الانتظار الطويل بالمطارات العربية وتأخر الرحلات، ناهيكم عن إلغائها في معظم الأحيان.
فإذا كان ذلك التنظيم والنظام المبهر في دقة وتسيير ونظافة هذه القطارات الأوربية الحديثة، فما بالكم والحال عليه برحلاتهم الجوية المنتظمة وبكل دقة وانتظام، أليس من حق العربي الزائر لهذه البلدان الأوربية أن يتحسر على الوضع المتردي في بلده العربي، وهو يرى فوضى قطاراته القديمة الصدئة وبطء تحركاتها وخروجها في حالات كثيرة عن قضبانها ومواقيتها المملة، وأما الرحلات الجوية فحدث عنها ولا حرج!
في -غراند بلاس- وهو الميدان المحاذي لبلدية بروكسل، الذي يؤمه كافة الأجناس والأطياف والذي تحتوي محلاته على العديد من الرسوم والزخارف المعروضة للبيع منذ العصور الغابرة، وفي دواخل الميدان تتواجد المقاهي والمطاعم، ذكرتني ب -خان الخليلي- مع فارق المكان والإنسان والزمان.. في أحد هذه المقاهي أخذت أحتسي فنجاناً من الشاهي في محاولة لتدفئة الجسد فالوقت في آخر النهار والجو يوشي ببرودة ورذاذ مطر خفيف منعش، كنت أتفحص وجوه رواد المقهى لعلي أجد مترجماً مرافقاً لي لزيارة معالم المدينة، فلغتي الإنجليزية لم تكن شفيعة لي بمعرفة الأماكن والطرق البلجيكية.
إلا أنه حدث ما لم يكن بالحسبان حينما جلس جانبي أخ عربي إفريقي وأخذ يعرض خدماته، وعلى الفور قلت أريد مترجماً فقال لا عليك سأتكفل بذلك، على أن تدفع لي مقابل ذلك عشرون يورو يومياً.
قلت موافق، وأعطيته عنوان سكني وكان كل يوم يأتي باكراً ليأخذني بجولة على معالم المدينة، فزرت أحياء وطرقاً وأنهاراً أخذت بمجامعي، شاهدت ما يفوق الوصف ولا يتسع الوقت لذكره هنا!!
صبيحة يوم كنت أجلس بمفردي بشرفتي المطلة على مقربة من الميدان، وأتمعن بهذه الورود والزهور التي تزين إطلالة كل برندة وتجعل منها منظراً جميلاً لجانب الطراز المعماري الأوربي العتيق الجميل، والفرق الشاسع ما بين شرفات مساكنهم وشرفاتنا الملآنة بالكراكيب والغبار كسلة للمهملات، وليست للزينات.
لذلك كنت أحلم لوكان لي ذهب المعز لاشتريت شقة متواضعة.
ولا أقول فيلا أو قصراً من ذهب نصاب عربي فر بمئات الملايين من بلاده بعد أن أغراه مودعوه بتنمية وتسمين أمواله..
أفقت من خيالاتي وتخيلاتي العريضة الحالمة، فوجدت حتى الخيال مسافراً معي ليكون زادي ومزادي في اجترار الأماني والذكريات الجميلة!!