لعله من المفيد قبل الدخول إلى موضوع البحث، الوقوف عند معنى كلمة «عُنقر»، في اللغة لمعرفة أصلها ومعناها، إذ تفيد المعاجم اللغوية أنها تعني: أصل الشيء، وأساسه، كما تعني القوة، والزعامة..
وفي القاموس المحيط للفيروز آبادي: «العُنقر: بفتح القاف وضمها أصل القصب، وأول ما ينبت منه... وقلب النخلة، وأصل الرجل، وأولاد الدهاقين، وبالضم: ناقة منجبة ... إلخ»(1). ويعرف المصنف الدهاقين بأنهم: جمع دهقان (بالكسر والضم) وهو القوي والزعيم والرئيس(2).
وعُنقر، والنسبة إليه عنقري، والجمع: عناقر، أصبحت في هذا العصر اسم علم على أسرة عريقة وعظيمة من أسر البلاد السعودية، لا يتسع المجال هنا للحديث عن أصلها ونشأتها ومكانتها، وإنما يدور الموضوع هنا حول محاولة الربط بين دلالة الاسم ومكانة أصحابه، إذ يلحظ الباحث وجود علاقة جديرة بالدراسة، وهي الارتباط الوثيق بين الدلالة اللغوية السامية للكلمة، وبين مكانة الأسرة السامقة في الأدب والتاريخ المحلي.
فقد لحظت من خلال اطلاعي على مصادر تاريخنا المحلي، أنّ الأدب الشعبي في الجزيرة العربية يحمل مكانة غير عادية لكل ما هو عُنقري.
بدأت رحلتي مع هذا الكشف عندما سمعت لأول مرة أحد كبار السن يلقي أبياتاً من الحداء، تنم عن الاعتداد بالنفس والتقليل من خصمه بتنبيهه إلى أنه ليس شريفياً ولا عنقرياً، إذ يقول صاحب القضية لخصمه:
لا تحَسْبك عنقري والاّ شريف
تترد الناس دون مصيبها
ومعنى البيت أنك لست من الأشراف ولا من العناقر حتى ترد الناس عما يرون أنه الصواب.. والذي يهمنا هنا هو أنّ الشاعر الشعبي ساوى بعفوية بين الأشراف والعناقر كناية لما لهم من الرفعة والسؤدد، ولا شك أنّ لهذا دلالته المهمة.
لكن الذي استوقفني وزادني اهتماماً بهذا الموضوع، هو ما اطلعت عليه أثناء تحقيقي لوثائق جمعتها من منطقة خيبر التاريخية، إذ تكررت في تلك الوثائق عبارة: «عطية عنقرية» للدلالة على تأكيد الهبة والعطاء، والتأكيد على عدم رجوع الواهب في هبته أو عطائه. ومن ذلك ما جاء في وثيقة عطاء شرعي مؤرّخة في شهر محرم سنة 1215ه، وهذا نصها: «الحمد لله وحده؛ هذا ما أعطى (جميل بن سنيان) أعطى (أحمد بن عيد) الحوض المسماة حوض التيار... إلى قوله: أعطاه (جميل) (أحمد)، عطية عنقرية، لا يرده غيض ولا رِضَى ولا فقر ولا غِنَى... شهدوا القبلاء على أنفسهم، شهد (علي بن صالح)، شهد (محمد بن دخيل)، شهد (مبارك بن رشيدان)، شهد (مصلح العقيل)...؟، حرر نهار....؟ من عاشور سنة خمس طعشر بعد ميتين وألف».
كما جاء في وثيقة عطاء أخرى في قرية بشر (بكسر الباء وسكون الشين) في خيبر، مؤرّخة في (6-10-1281ه) ما نصه: «الحمد لله وحده، لما كان تاريخه عام ألف ومايتين ووحدة وثمانين، هذا ما أعطى (غريب بن فرج) أعطى (صالح بن حمد) قطته بالسهم(3)، أربعة حيضان، عطية عنقرية لا يمنها غيظ ولا رِضَى ولا فقر ولا غِنَى... إلى قوله: وخط وشهد (صالح بن حمد الزبيري)، نهار الأربعاء ست من شوال، والله خير الشاهدين».
وجاء في وثيقة ثالثة مؤرّخة في (22-12-1303هـ) ما نصه: «الحمد لله، هذا ما أعطى (أحمد بن مبارك الصحيفي) أعطى (عليان بن عفنان)، أعطاه ذكر(4) في حوض الصفيصفات، وصار ملك من أملاك (عليان)، وبعد ذلك جزا (أحمد) خمسة ريالات، والعطاء عطية عنقرية لا يمنها غيض ولا رِضَى ولا فقر ولا غنى... إلى قوله: اثنين وعشرين من شهر الضحية نهار الثلاثاء سنة 1303...إلخ».
هذه أمثلة مختارة للتدليل على شيوع هذه العبارة في الوثائق المحلية لمنطقة خيبر، مما يدل على شهرة هذا المثل.
وختاماً؛ فإنه لا بد من الإشارة إلى أنّ أهل شمال الجزيرة وخصوصاً قبائل عنزة يشتهر عندهم المثل المعروف: «عطية غبَيْني»، وينسبون ذلك إلى قصة جرت على حمدان بن غبَيْن من شيوخ عنزة الذي أهدى جواده إلى ابن عريعر، فأراد أن يرده، فرفض ابن غبين، وقال لمرسول ابن عريعر، قل له: «هذا عطية غبَيْني لا ترد». فذهبت مثلاً، ولذلك أمثلة كثيرة في أشعارهم. والله أعلم.
(1) القاموس المحيط، الفيروز آبادي، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط2، 1407هـ / 1987م، ص573.(2) القاموس المحيط، مصدر سابق، ص1546.(3) القطة: هي النصيب والاستحقاق. والسهم: اسم عقار معروف في خيبر.(4) المراد: ذكر نخل.