من قبل أشرتُ في مقالي السالف: «الثورة العربية التي لم تأتِ بعد» إلى ضرورة النظر في أحوال الذات، لا من حيث كينونتها المحسوسة، ولكن من حيث قيمها ومسلَّماتها وأنماط سلوكها ومدى
قدرتها على الإسهام بما تُطالب به، بوصفها بنية فاعلة في كيان الأمة؛ إذ ربما تكون الذات العربية بما هي عليه من اتكالية وضعف في المواهب والمدركات والمهارات والأمانات من معوقات الإصلاح المنشود. وبناء الكيانات وفق متطلبات المرحلة لا يتأتى من الهتافات الغوغائية، ولا من التدخلات الخارجية، ولكنه من السُّرات، ولا سرات إذا ساد الجهلة والأحداث، وتحكمت الأهواء والعواطف، ومن المؤسسات ولا مؤسسات إذا سادت الفوضى. وإذ يكون من طبيعة الإنسان الضيق والضجر والتمرد على السلطة، أياً كان نوعها، وأياً كان أسلوب ممارستها لحقها، فإن التمرد عليها لا يكون بالضرورة بداية للإصلاح؛ فالإصلاح المرحلي أو الناجز يحتاج إلى تهيئة الأجواء وإشاعة ثقافة التغيير، فالناس أعداء ما جهلوا، وكم من شعوب شكَّلت عقبة في طريق المبادرات الإصلاحية. لقد أسقط المصريون سلطتهم ظناً منهم أنها تحبس عنهم عصب الحياة وتشيع فيهم بوادر التخلف، ولما لم يستطع الخلف المؤقت أن يدفع أي غائلة ولا أن يرفع أي معوق ظلوا في ثورتهم يعمهون.
والمؤكد أن الأمة العربية تعاني من فساد يصطرع مع كوامن الخيرية في الطائفة المنصورة.
- فساد في الذات.
- فساد في الغير.
- فساد في الأنظمة.
- فساد في الأوضاع. وهو فساد متفاوت قد يتخلف بعضه ويتفاقم بعضه الآخر، وقدر الأمة العربية تأثير بعضها على بعض، فالسياق العربي يعوق دون الاعتصام من الغرق، والثورات العربية لم يقتصر أثرها السلبي على مناطقها الإقليمية؛ فدول الخليج العربي على سبيل المثال لم تتعرض لثورات عسكرية، ولكنها لم تسلم من تجرع مرارات فوَّتت عليها فرصاً ثمينة، ولما تزل تعاني من آثار ذلك، بل تكاد تفاجأ كل يوم بقاصمة تحز إلى العظم، حتى أنها لم تسلم من عاصفة المظاهرات مع إمكانية الوصول إلى الحق عن طريق الأبواب المفتوحة، ولكنه التأثر والتداعي، وقدر الأمة العربية ما هي عليه من «استراتيجيات» وما تتوافر عليه من كوامن الإمكانيات لو استبدت بها لناهزت الندية. وذلك ما لا تريده دول الاستكبار ومن دونها الصهيونية العالمية، وستظل أبداً أمام تحديات إقليمية وعالمية، وإشكاليتها أنها تمارس عملها تحت تأثير ضغوط لا فكاك منها وبالفورية والفردية، فيما يمارس الآخر سياسة بإرادة مطلقة وعبر مؤسسات عريقة ومتخصصة؛ الأمر الذي هيأ الأمة العربية لتكون مشروع مؤامرات ولعب سياسية بحجم ما آلت إليه أوضاع العراق والسودان والصومال ولبنان. وعلى هذا الضوء فإنه من السهل التغرير بطوائفه وجماعات الضغط فيه والأحداث من شبابه، وفي ظل هذه الأجواء فإن إصلاح الأنظمة أجدى من إسقاطها، وسياسة الأبواب المفتوحة أجدى من تسور المحراب، وإن كانت بعض الأنظمة تستحق الإسقاط لتعذر إصلاحها. وإذ يكون الإسقاط مجازفة محفوفة بالمخاطر لأنه سيؤدي حتماً إلى فراغ دستوري قد يمتد أجله فإن مبادرة أهل الحل والعقد من مقتضيات المرحلة المتوترة على مختلف الصعد. والفراغ الدستوري يفتح شهية الطامعين من الداخل والخارج لنهب الغنائم؛ إذ لا تخلو أي دولة من فتن نائمة تتربص الدوائر، ولقد قيل من قبل: «تقوم الثورات على يد الشجعان ويستثمرها الجبناء». ولقد أسرَّ لي أحد الزملاء المصريين خوفه من ضياع الثورة.
قلت: وما ضياع الثورة؟
قال: الضبع لا يستطيع افتراس البقر الوحشي، ولكنه إذا رأى أسداً قد افترس بقرة تكاثرت عليه الضباع وأزاحته عن البقرة الفريسة.
ولما كانت التداعيات في الوطن العربي قائمة على أشدها فإن الآمن في سِربه المعافى في بدنه المتوافر على كماليات دهره وضرورياته يخشى أن ينتابه السهر والحمَّى من تلك الأوجاع التي تنتاب الجسم العربي المنهك، والمؤكد أنه ليس من حقنا أن نتدخل في أي شأن عربي داخلي، وإن آلمنا القتل الهمجي والفوضى المستحكمة وترويع الآمنين تحت أي ذريعة، وأمور الأمة العربية لن تستقيم ما لم يُدرك كل طرف ما ينقصه منها؛ ليكون جاداً في تلافي هذا النقص بأقل التكاليف وأسرع الأوقات، والخطوة الأولى تكمن في الوضوح الذي يعرف من خلاله المواطن إمكانيات وطنه حسياً ومعنوياً، ومدى قدرة السلطة على التغيير المرحلي أو الفوري، وفي ظل هذه الدوامة من الفتن لا بد من العودة الواعية للفكر السياسي الإسلامي؛ لأنه وحده القادر على استيعاب هذا الاضطراب، والنجاة بالسفينة من بين الشُّعَب المرجانية، ولقد حمدتُ لعلمائنا ومفكرينا استعادتهم الواعية لموقف الإسلام من الفتن، ولجوءهم إليه لتخطي تلك الأعاصير الهوج، والفكر السياسي الإسلامي داخل في نسيج سائر الأنظمة السياسية العالمية حين هيأ لها المادة الخام، ومكَّنها من تحويل الظواهر إلى نظريات ذات بُعْد مؤسسي، وتعلقنا بالمستجد من النظريات إدامة لغفلتنا عما لدينا من إمكانيات مغنية لو رعيناها حق رعايتها ووعيناها وأتحنا لها فرصة النفاذ بكل ما هي عليه من عدل ومساواة وحرية وتكافؤ فرص. ولَكَم يسوؤني برم المستغربين من القول بالخصوصية والغزو والتآمر، وتهافت المبهورين على منجز الآخر حسية ومعنوية دون وعي به ودون وعي بإمكانيات حضارة الانتماء، وكم كان بودي لو اطلع المبهورون بمصطلحات الغرب السياسية على منجز مفكري الإسلام وعلمائه، وبخاصة مَنْ أتيح لهم تلقي الفكر الغربي في جامعاته وعلى يد أساطينه، وممن شغلوا بالسياسة المقارنة، ولعلي أقتصر على مرجع واحد أحسبه كافياً شافياً، ذلكم هو كتاب (مبادئ نظام الحكم في الإسلام) مع المقارنة بالمبادئ الدستورية الحديثة للأستاذ الدكتور عبدالحميد متولي، وهو أستاذ متبحر في القانون الدستوري والأنظمة السياسية في مختلف الجامعات العربية، وأزعم أن مثله خبير عليم بمثل هذه المهايع، وليس هو مثل المبهورين الذين لا يلوون على شيء. والخلوص من هيمنة الآخر والتعايش معه بندية بداية الرشد، فالشعوب العربية ملَّت زمن التيه، وضاقت ذرعاً بالمتذوقين الذين أذهبوا ريحها، وأقصوا إمكانياتها، وظلوا كما لو كانوا (كومبارساً) يرددون ما يُوكَل إليهم إلقاؤه، يجيدون التمثيل ولا يحسنون التمثيل.
والاستياء نفسه ينتابني من المقيِّدين أنفسهم في ذرى سدِّ الذرائع ودرء المفاسد دون فقه بالمقاصد، ومصير البلاد حين تتنازعه تلك الفئات تتآكل إمكانياته وتخور عزماته وتطيش سهامه.
والمملكة العربية السعودية ذات خصوصيات في كل أبعادها السياسية والفكرية، يجليها نظام الحكم الذي يأخذ بعصم الإسلام، ويحتكم إليه، وبإمكانياتها الاقتصادية التي تجعلها طريدة لكل جائع نهم، وبمقدساتها التي تفرض عليها التهيؤ لكل طائف وراكع وعاكف وساجد من مختلف الأطياف والطوائف.
ولقد يكون من العسير تمثل الخصوصية وتوفير الأجواء الملائمة لكل قادم من كل فج عميق لولا الانفتاح المحسوب والتوازن المطلوب والدفع بالتي هي أحسن والقدرة على استيعاب كل الخطابات وامتصاص كل الاحتقانات.
ولقد يكون من الأعسر التوفر على مستوى متوازن يوائم بين الحضارة والمدنية دون إخلال بمقتضيات نظام الحكم الذي هو بمثابة دستور قائم.
وحين نعود إلى مفرزات الأحداث العربية، وما ستخلفه من تحولات في الخطابات كافة، نجد أننا أمام مراحل انتقالية عصيبة لا يمكن تصور مآلاتها، فمصر - على سبيل المثال - تعيش حالة من الانفجار السكاني وتهالك البنية التحتية مع ضعفها وضعف الموارد الاقتصادية وسوء الإدارة والكساد والبطالة وأزمة الإسكان، ففي ظل هذه الأوضاع لا يمكن لأي حكومة مؤقتة أو منتخبة أن تحلحل الأوضاع بين عشية وضحاها، والمتظاهرون الذين أسقطوا النظام لن يكونوا قادرين على تحقيق التطلعات.
ولقد راهنتُ على أن هذه الانتفاضة ستنقل مصر من حافة الفقر إلى درك المجاعة، ولاسيما أن المتظاهرين لما يزالوا يتدفقون من كل صوب لفك الغوائل التي يعانون منها من قبل الانتفاضة، وكأني بلسان الحال والمقال يردد مقولة قوم موسى: {... أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِينَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا}. ولن يجدوا من يرد عليهم مطمئناً: {... عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ}. ولقد يظن المتفائلون أن حُسْن الظن والرفق بالجاني من بوادر الانفراج، ومصر التي تُشكِّل عمقاً عربياً لا يستهان به يسوء الوجلين أن تكون مقدراتها ريشة في مهب الريح، وما أبديه من محاذير ليس تشاؤماً ولا تحاملاً ولا سوء ظن، وليس فيه قسوة ولا تيئيس ولا إحباط، ولكنه واقع ملموس، وإذا أصر المتظاهرون على مواصلة الانتفاضة حتى يلمسوا الحلول بأيديهم فإن الأمر لن يزداد إلا تعقيداً، وسوف تتلاحق استقالات الحكومات، وسيضطر الجيش إلى استخدام القوة لاستدراك ما يمكن استدراكه؛ فالفوضى لن تكون خلاقة، ومصر التي تعتمد على الدعم (اللوجستي) وعلى الموارد الشحيحة بأمسّ الحاجة إلى سواعد أبنائها وتحرك عجلة الإنتاج المعطلة، والبوادر لا تبعث على التفاؤل، والعقلاء من أبناء مصر يضعون أيديهم على صدورهم ويرددون: «اللهم سلم سلم». وما أحوج الأمة العربية إلى عودة الأمور في أرض الكنانة إلى وضعها الطبيعي، وعودة مصر لملء الفراغ، وكيف يتأتى الاطمئنان والتفاؤل والأمة العربية كما الهشيم الذي تذروه الرياح؟ وإذا كانت سحائب الخير تهطل في كل زاوية من أرضنا فإن أملنا أن تنتظم البلاد العربية والإسلامية؛ فنحن لا نرضى أن نكون كمن يقول: «إذا مت ظمآناً فلا نزل القطر»، ولكننا نقول:
فلا نزلت عليّ ولا بأرضي
سحائب ليس تنتظم العبادا
وبعد: المَجْدُ لملك بادل شعبه الحب، ولشعب وفيّ لقيادته وردّ كيد الحاقدين إلى نحورهم، وأخسر رهانهم، وخيّب آمالهم، وإذا كانت أيامنا حبلى فإنها ستلد العلقم في أفواههم والعسل على شفاهنا، (وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون).