فرضت عليّ الظروف الجديدة في عالمنا العربي من المحيط إلى الخليج العودة لقراءة الفكر الوحدوي بعيون وطنية لا قومية إذ إنني على يقين تام وإيمان جازم بأن هذه الفكرة ببعدها العربي صارت اليوم مجرد أطروحة ماضوية ولا يمكن أن تعود إلى ساحتنا السياسية أو أن تصبح واقعاً معاشاً في عصر العولمة الجديد إلا ببعث جديد يعيد لها الروح بعد أن ماتت. لقد كان يقال لنا ونحن صغار إن وحدة العرب أمل كل عربي، وعنوان كل فدائي، ونبراس جميع الأحرار، وحلم الصغار قبل الكبار، بل هو أمنية من في الأصلاب، ومن بحثي المتخصص خلصت إلى أن أساليب تحقيق الوحدة في فكرنا العربي تتعدد وتتنوع، ومع ذلك يمكن تصنيفها في إطارين رئيسين هما: «أساليب القوة» و»أساليب السلم والتفاوض»، ويندرج تحت النوع الأول من الأساليب ما يلي:
الانقلاب: ويعني هذا الأسلوب السعي لتحقيق الوحدة العربية الفورية قسراً وبالقوة على يد جماعة من رجال الحكومة أو الجيش «قمة الهرم». وقد تكرر الحديث كثيراً عن هذا اللون من ألوان التغيير للواقع العربي في أدبيات حزب البعث العربي الاشتراكي على وجه الخصوص. والانقلاب بناءً على هذا التحديد ليس له إلا مدلول واحد واضح وصريح، وهو الصراع العنيف ضد التيارات التي ترفض تحقيق الوحدة العربية. وفكرة الصراع هذه فكرة شيوعية تتحدث عن وجوب التغيير بالدم، وسلب السلطة بالقوة. وهذا -الأسلوب الانقلابي- أسلوب مرفوض في الإسلام، لما فيه من فتنة واعتداء على الآخرين، وغالباً ما تكون الفئة التي ترى فكرة الانقلاب فئة ظالمة لا تحتكم إلى معيار ديني أو خلقي، وإنما هي الرغبة في الانتقام، والأخذ بالثأر، وحقيقة الأمر أن هذا السلوك القصري ارتداد إلى ممارسات الغزو القبلي بوسائل متقدمة.
أما الناصريون، فقد رفضوا الانقلاب كوسيلة لإقامة دولة الوحدة، إذ جاء في الميثاق: (... إن الوحدة لا يمكن بل لا ينبغي أن تكون فرضاً، فإن الأهداف العظيمة للأمم يجب أن تتكافأ أساليبها شرفاً مع غاياتها، ومن ثم فإن القسر بأيّ وسيلة من الوسائل عمل مضاد للوحدة).
الثورة: وهو الأسلوب الثاني من أساليب تحقيق الوحدة بالقوة، والذي يتم عن طريق العمل الجماهيري المنظم، وهناك عدد من مفكري القومية العربية أقروا أسلوب الثورة أمثال «محسن إبراهيم» الذي يدعو إلى وجوب وجود تنظيم شعبي يقود النضال، و»عصمت سيف الدولة» الذي يرى أن الثورة هي طريق الوحدة العربية، وهي مفروضة لا خيار فيها ولا مناص منها. ومع أن «سيف الدولة» يذهب إلى أن العنف ليس شرطاً للثورة، وإن وقع فالثوريون ليسوا مسؤولين عنه. فهو يبرر للثوريين استخدام العنف، ويعتبره (إجراءً مشروعاً لتجريد أعداء الثورة من المقدرة العنيفة على تثبيت نظام قانوني يجب أن يسقط لمصلحة الجماهير. ولما كان ذلك النظام القانوني ذاته يبيح العنف ضد الذين يحاولون إسقاطه، فإنه اعتداء قائم والرد عليه بمثل أسلوبه العنيف دفاع مشروع)، والمُحَصِّلة النهائية لهذا القول هو اعتداد الكاتب -عصمت سيف الدولة- بالعنف ضد أعداء الوحدة العربية، وهو في مختلف الأحوال يرى أن الثورة لون من ألوان الضغط الشعبي متفاوت المستوى، ولا يرى أن الوحدة يمكن في يوم من الأيام أن تتحقق عن طريق الاستفتاء الشعبي، ومرد هذا الهجوم على هذه الطريقة لتحقيق الوحدة العربية أن الاستفتاء سيسبب أضراراً مدمرة. (أول هذه الأضرار - فينظره- هو الربط بين الوحدة العربية والديمقراطية ربطاً شكلياً، وثانيها: أن الجماهير العربية ستركن إلى الاستفتاء وستجد فيه طريقاً سهلاً إلى الوحدة العربية، وثالثها أنه سيفتح طرقاً -حقيقية وليست شكلية- للانفصال باستفتاء إقليمي جديد، وآخر هذه الأضرار أن تتسلل الإقليمية لدعم التجزئة من خلال الشكل الديمقراطي).
أما البعث فقد ربط بين الثورة والانقلاب واعتبرهما سبيلاً واحداً لتحقيق الوحدة العربية (فالوحدة العربية فكرة ثورية، وعمل ثوري... والنضال في سبيلها نضال شعبي، وصورتها المقبلة تولد وتتحد، بما يحمل نضال الجماهير العربية من تجارب ومعانٍ تحررية إنسانية). أما عن أسلوب السلم والتفاوض فاستحدث عنه في مقال الخميس المقبل بإذن الله.. وإلى لقاء والسلام.