تمر الأزمات ويكتب الله جل وعلا لها أن تزول ويبقى الموقف شاهداً على تلك الأحداث إن خيراً فخير وإن شراً فشر، وخير شاهد على ما مرّ بنا أحداث الحرم الشريف في بداية الثمانينيات الميلادية وأحداث أزمات الخليج الأولى والثانية والثالثة وحرب تحرير الكويت
وأحداث الحادي عشر من سبتمبر، والوطن يراقب ويرصد ما كان من مواقف إيجابية وسلبية على السواء، فأثبت في صفحاته البيضاء كل الشرفاء والصادقين كما أثبت في ذاكرته كل المخذلين والمتربصين والمستغلين للظروف وأقدار الله المؤلمة...
نعم لن ينسى الوطن ما شوهه أولئك عن طريق الأشرطة والمطويات والكتيبات والمحاضرات والفتاوى حتى أصبح يعرفهم في لحن القول، تتلون مواقفهم حسب ما يغنمون به من الدنيا فإن أعطوا من الدنيا رضوا، وإن منعوا سخطوا في صورة تؤكد ما ورد عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تعس عبد الدينار والدرهم والقطيفة والخميصة إن أعطى رضي وإن لم يعط لم يرض» متجاهلين اختلاف وطننا الغالي نظاماً وقيادة وحكومة وشعباً عمن هم حولنا في كل التفاصيل التي فجَّرت تلك الثورات الشعبية على أنظمتها في البلاد الأخرى، ويكفيه فخراً خدمته للإسلام والمسلمين الذين يراقبون هذه الأيام ما يصدر تجاه الأحداث العصيبة التي تمر بها أمتنا المجيدة وانفلات الشارع وعدم ضبط مساراته حتى فقدوا الأمن والحفاظ على الضرورات الخمس التي نادت بها الشرائع الربانية قاطبة.
في هذا الوقت الذي نحن بحاجة إلى من يدرك مسؤولياته تجاه أمته وشبابها، ويكون مغلاقاً لأبواب الشر والفتنة، ومفتاحاً لأبواب الخير والنعمة ويستحضر كل النصوص الشرعية والقواعد العامة والفهم السليم والمآلات التي جاءت بها الثورات في تلك البلاد، نجد أن بعضاً ممن نحسبهم والله حسيبهم قد أفتى بجواز المظاهرات غير مدرك لخطورة الخروج والتهييج للشباب وما في حكمهم، وأكثر ما آلمني وآلم غيري نظرات الشيخ سعود الفنيسان والتي ادّعى أنها شرعية في وسائل التعبير السلمية، وقد جاء فيها بعض الفقرات التي تحتاج إلى بيان ومنها ما يلي:
1- قال الفنيسان: «ومن المتقرر عند أهل العلم والرأي أن وسائل التعبير اجتهادية غير توقيفية، وقد جدَّ في عصرنا اليوم وسائل للتعبير لم تكن معروفة من قبل ك (الرسم والتمثيل والتصوير الكاريكاتيري والسمعيات والمرئيات، أو القيام بالمظاهرات السلمية، وعقد المؤتمرات والندوات والمهرجانات الخطابية في الميادين العامة أو عن طريق الهواتف الثابتة والنقالة، والقنوات الفضائية، والإنترنت كالفيس بوك، وتوتير... وغير ذلك من وسائل الاتصال المتعددة... إلخ)»...
ثم قال: «ولا يمكن في هذه العجالة الحديث بالتفصيل عن كل الوسائل السابقة، ولكن سأقتصر على وسيلة واحدة منها وهي: (المظاهرات السلمية) نظراً لكثرة الحديث عنها في هذه الأيام، بين محلل ومحرم دون مناقشته لموارد الأدلة فيها، وقد كثر الخوض في حكمها بعد الثورة الشعبية السلمية في تونس، ومصر، وليبيا، وكل هذه الثورات لم يسفك المظاهرون فيها دماً ولم يشهروا سلاحاً ولم ينهكوا نفساً أو يفسدوا شيئاً من الممتلكات»، ولي وقفات مع هذا:
1-ابتداءً ليس صحيحاً أن هذه المظاهرات كانت سلمية ولم يسفك فيها دماء ولم تفسد الممتلكات العامة والواقع يشهد بغير ذلك.
2- المظاهرات من مظاهر الخروج على ولي الأمر، وإهانة للولاية الكبرى ومن يقرها ويدعو لها ويحتج بأنها سلمية فهو أشبه بالقعدة من الخوارج الذين قال عنهم علماء السلف قعدة الخوارج أشر فرقة، وهم الذين يهيّجون العامة للخروج للشوارع وحمل السلاح ورفع الإشارات واللافتات التي تسيء وتعرض بخلع البيعة. فخوارج القَعَدية: هم الذين يخرجون عن طاعة السلطان بالكلمة، ويضمرون الخروج بالسيف، ولا يبدون ذلك علانية، وإنما يؤلبون جمهور الناس على السلطان. قال ابن حجر - رحمه الله - في التهذيب: (القعد الخوارج، كانوا لا يُرون بالحرب، بل ينكرون على أمراء الجور حسب الطاقة، ويدعون إلى رأيهم، ويزينون مع ذلك الخروج ويحسنونه)، وقد بيَّن العلماء أن الخروج قد يكون بالكلام والتحريض كابن عثيمين - رحمه الله -.
3- إنكار المنكر مضبوط بضوابطه الشرعية، ودرء المفاسد وجلب المصالح هو المعوّل عليه في هذه العبادة، وأثبتت التجارب أن المظاهرات مفسدة خطيرة للجماعة وتهييج للشباب وإفساد لمؤسسات الدولة وتعطيل لجوانب الحياة العامة.
5- هذه المسوغات التي يذكرها من تلبيس إبليس لأن العلماء المعتبرين وضعوا شروطاً للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من خلال استقراء النصوص والجمع بين الأدلة والتأليف بينها، ومن ينعم النظر في المظاهرات اليوم يجد أنها جمعت المسلم مع الكافر، ومن لا دين له والمتساهل والمقصر والمدمن وبعض عبدة الشيطان والنساء والأطفال وغير ذلك، وفات على الشيخ الفنيسان أن الإسلام والتكليف من المتفق عليهما في شرط المحتسب وبخاصة في النوازل والفتن والحاكمية، قال الماوردي: «أما الإسلام فلا يخفى وجه اشتراطه لأن هذه نصرة للدين...».
إضافة إلى أن الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر يجب أن يكون لخاصة الفقهاء ومن في حكمهم ممن يستقبلهم السلطان والحاكم وليس للعامة في الشوارع والمنتديات والأسواق والمساجد، قال القاضي أبو يعلى في المعتمد: «لا يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر إلا من كان فقيهاً فيما يأمر به، فقيهاً فيما ينهى عنه، رفيقاً فيما يأمر به رفيقاً فيما ينهى عنه حليماً فيما يأمر به حليماً فيما ينهى عنه» ونص ابن مفلح على أن يكون قاصداً بذلك وجه الله وإقامة دينه وإحياء سننه بلا رياء ولا منافقة ولا مداهنة غير متنافس ولا متفاخر، وهذه الصفات لا يمكن أن تتوافر في شباب المظاهرات وما يصاحبها من سباب وشتم ومخالفات شرعية إضافة إلى أنهم في دولة مسلمة ومجتمع مسلم وولاة أمر فضلاء، فالدين قائم والحدود قائمة وشعائر الإسلام ظاهرة في الحياة العامة والخاصة وولاة الأمر يستقبلون الناصح ويحمدون له ذلك بشرط النية الحسنة والسرية التامة ولله الحمد.
6- قال الفنيسان: «فإذا كانت الغاية شريفة والمقصد حسناً أصبحت الوسيلة واجبة أو مندوبة فحكم الوسيلة حكم غايتها؛ فإذا كانت الغاية سيئة محرمة أو مكروهة؛ فوسيلتها مثلها. ولذلك تقرر عند العلماء قاعدة (الوسيلة لها حكم الغاية) لا كما يقرر في القوانين المدنية الوضعية أن (الغاية تبرر الوسيلة) وفرق بين الوسيلة في القاعدتين، فالوسيلة في الأولى شرعية قرآنية أما في الثانية وضعية كفرية...».
والسؤال هل المقصد الحسن والغاية الحسنة يسوغان مخالفة النصوص الشرعية، بل إن من يجيز المظاهرات نظرَ للغاية ولم يعتبر الوسيلة، فالمهم التغيير بأية طريقة وبأي كيفية وهذا مردود أصلاً وفرعاً بالقاعدة التي استدل بها الشيخ فهي دليل عليه وملزمة له، فالغاية لا تسوغ الوسيلة ولا تبيح المحرم ولا يتوصل للأمر الشرعي إلا بسبب شرعي، قال القرافي - رحمه الله -: «واعلم أنَّ الذريعةَ كما يجب سَدُّهَا يجب فتحُها، ويُكرَهُ ويندب ويباح، فإنَّ الذريعةَ هي الوسيلةُ، فكما أنَّ وسيلةَ المحرَّمِ محرَّمةٌ، فوسيلةُ الواجب واجبةٌ، كالسعي للجمعة والحجِّ، غيرَ أنَّ الوسائلَ أخفض رُتبةً من المقاصد، وهي - أيضًا - تختلف مراتبُها باختلاف مراتبِ المقاصد التي تؤدِّي إليها، فالوسيلةُ إلى أفضلِ المقاصد أفضلُ الوسائل، وإلى أقبح المقاصد أقبحُ الوسائل، وإلى ما هو متوسِّط متوسِّطةٌ»، وذكر العلماء أن العمل بالوسيلة مشروط بالنظر إلى المآلات من مصالح ومفاسد قال الشاطبي: «النظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعاً، كانت الأفعال موافقة أو مخالفة؛ وذلك: أن المجتهد لا يَحكم على فعل من الأفعال الصادرة من المكلفين بالإقدام، أو بالإحجام إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل»، فكلما كان إفضاء الوسيلة أكمل في تحقيق المقاصد كانت الوسيلة أفضل. قال العز بن عبد السلام: (وكلما قويت الوسيلة في الأداء إلى المصلحة كان أجرها أعظم من أجر ما نقص عنها) وقال ابن القيم: (فوسائل المحرمات والمعاصي في كراهتها، والمنع منها بحسب إفضائها إلى غاياتها وارتباطاتها بها. ووسائل الطاعات والقربات في محبتها، والإذن فيها بحسب إفضائها إلى غايتها). وأي عاقل يدرك ما تفضي إليه المظاهرات من منكرات وخراب ودمار وتفرق لا اجتماع بعده، قال ابن سعدي: (الوسائل لها أحكام المقاصد: فما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وما لا يتم المسنون إلا به فهو مسنون، وطرق الحرام والمكروهات تابعة لها، ووسيلة المباح مباح)، وتحدث الإمام ابن القيم في إعلام الموقعين عن الوسائل التي ادّعى الفنيسان أن المظاهرات تأخذ حكمها وقد قسّمها أربعة أقسام، وهي: وسيلة موضوعة للإفضاء إلى مفسدة، وسيلة موضوعة للمباح قصد بها التوسل إلى مفسدة، وسيلة موضوعة للمباح لم يقصد بها التوسل إلى المفسدة لكنها مفضية إليها غالباً ومفسدتها أرجح من مصلحتها، وسيلة موضوعة للمباح وقد تفضي إلى مفسدة ومصلحتها أرجح من مفسدتها ثم قال: فالشريعة جاءت بإباحة هذا القسم يقصد الأخير أو استحبابه أو إيجابه بحسب درجات المصلحة» والمفسدة واضحة بيّنة في المظاهرات وما يصاحبها من فوضى وأدرك فسادها الأئمة ابتداء من السلف الصالح الذين قصروا نصيحة السلطان وجهاً لوجه في مجلس سري وعدم إفشاء ذلك للناس على المنابر وانتهاء بالشيخ ابن باز وابن عثيمين اللذين أفتيا بحرمة المظاهرات تقديراً منهما للمفاسد التي تحل بالأمة، والله من وراء القصد.