الجمعة - كما هو حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم- هداية لهذه الأمة بعد أن أضل الله عنه اليهود والنصارى، وسمي هذا اليوم بهذا الاسم « الجمعة « لاجتماع أهل الإسلام فيه يستمعون لرجل من بينهم منحه الله عز وجل بسطة في العلم وعمق في الفهم يذكرهم ويرشدهم ويبين لهم أمور معاشهم ومعادهم، والملاحظ في عالمنا العربي خاصة في هذه الأيام توظيف الجمعة- اليوم الذي صبغته الأساس صبغة دينية صرفة- توظيفاً سياسياً بحتاً، واستغلال تجمع المسلمين للزج بهم في مظاهرات واعتصامات ورفع لافتات وشعارات تعبر عن مطالب داخلية بعضها خاص والآخر يهم فئة محددة، وربما كان من بين هذه المطالب ما يُعتقد أنه مطلب شعبي عام، ليس هذا فحسب بل أصبحت التجمعات بالملايين حتى صرنا نسمع عن جمعة المليون وجمعة الملونين وربما وصل العدد إلى أكثر من ذلك.
إن في هذا السلوك الذي يعتمد على التجيش المنظم والمخطط له والمسّوق عبر وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة المختلفة خروج عن السياق الرباني الرصين ومغايرة للسمة الذي ينبغي أن يكون عليه المسلم في أيام حياته كلها عامة وفي هذا اليوم العظيم على وجه الخصوص وعلى وجه أخص وهو في طريقه للمسجد فضلاً عن ساعة استماعه لخطبة الجمعة وحين الخروج، كما أن فيه تشويه لمعالم وملامح وصورة اجتماعات المسلمين التي من المفترض أن تكون مبنية على الاحترام المتبادل والتناصح المستتر بعيداً عن التشهير والتسفيه والتنديد والتأجيج.
لقد ذهب أحد المذاهب الفقهية المعروفة في قول له مشهور بأن الأصل في إقامة الجمعة أن تكون في المسجد الذي يصلي فيه إمام المسلمين أو من ينوب عنه إلا عند الضرورة، وفي هذا تأصيل وتقوية لعلاقة الطرفين (الحاكم والمحكوم) التي تتجلى في مثل هذه المناسبة العظيمة، بل كل منا يعرف من خلال قراءته للتاريخ الإسلامي أن إمام المسلمين إبان عصور الإسلام الأولى هو من كان يصلي بالناس ويخطب بهم.
ومما يسن في يوم الجمعة قراءة الكهف- كما هو معلوم- والسورة بأكملها تدور حول الفتنة بأوجهها الأربع:
- أولها فتنة التدين والتي تتمثل في قصة أصحاب الكهف.
- وثانيها فتنة المال والثراء (قصة صاحب الجنتين).
- أما الثالثة ففتنة العلم (قصة موسى مع الخضر).
- وأخيراً فتنة الحكم والسلطة التي تتشخصن في( ذي القرنين).
وهذه الوجوه هي بإيجاز المحرك الأساس للذات الإنسانية في سلوكها وفعلها المحسوب لها أو عليها سواء بصور فردية أو جماعية حين انخراطها في فعل جماهيري شعبي عام، والمتأمل في النص يلحظ أن الله عز وجل ختم كل قصة تحكي وجهاً من وجوه الفتن الدنيوية الأربع بعلاج نفسي وفكري هام ولعل هذا الأمر هو في نظري من أقوى الأسباب التي جعلت الشارع الحكيم يسن قراءة هذه السورة دون غيرها في كل جمعة، ويربطها بالنجاة من فتنة الدجال الذي ترتكز شخصيته وأفعاله وتدور مواجهاته وتحركاته على الفتن الأربع محل الحديث.
هكذا وبكل بساطة ووضوح يعلمنا ديننا الحنيف ويأمرنا الشارع الحكيم وتؤكد منارات الاقتداء وشواهد التأسي بسير الصالحين والحكماء بأن جوهر رسالة المسجد في يوم الجمعة تتمثل في درء الفتن لا في اصطناعها، وتجاوز الخلاف وليس في تغذية دوافعه، وفي ضبط التفكير ودقة الحسابات لصيانة المقاصد الإسلامية، وتغليب المصالح الوطنية العامة، وتقديم النموذج الأمثل للحضارة الإسلامية، وتعزيز قوى الإيمان وطاقاته فيما يعود بالنفع على الفرد والمجتمع وليس في تغليب العواطف والانسياق الأعمى وراء أفكار وإشاعات خاطئة وخلط الوهم والزيف بما هو حقيقي قاطع، وتقديم ما هو فردي على ما هو عام، وما يؤدي إليه من الانحراف برسالة الجمع والجماعات إلى الفرق وتداعياتها.
إن الكل مدعو إلى التأمل في مضامين الفتن ومداراتها وأوجهها المختلفة خاصة في يوم الجمعة التي تذكر بها وتبين خطورتها وتلمح إلى منهج الإسلام الصحيح في النجاة منها وتجاوزها بسلام، كما أننا جميعا( عالم الدين وصاحب المال والجاه والعالم المتبحر بالعلوم والمعارف المختلفة ومن بيده السلطة ومقاليد الحكم) مناط بنا القيام بواجبنا إزاء ديننا وبلادنا وأهلينا فكل منا على ثغرة فالله الله أن يؤتى الدين أو الوطن أو الشعب من قبلك، وإلى لقاء والسلام.