الطريق من الرياض إلى عرعر ماراً بعدة مدن وقرى وهجر ساعات طوال، تبتلعني صحراء وتسلمني لأخرى، عند وصولي إلى مشارف مدينة عرعر لاحت لي هذه المدينة العتيقة بغرتها البيضاء تفيض جمالاً وألقاً وعمراناً، تغيرت هي عرعر أصبحت جديدة، الشوارع محشوة بالناس والأسواق بالمتبضعين، الشباب يلبسون أحدث التقليعات...
... والشوارع ازدادت طولاً وعرضاً أكثر من ذي قبل، في أول يوم لي في عرعر كنت أدور بعيني بحثاً عن التفاصيل الدقيقة لهذه المدينة، مشيت كثيراً قفزت من شارع لشارع، المدينة ليست بالصاخبة وليست بالمكتظة ولها هدوء يمنحك إحساساً بالدهشة وأنت ترى الوجوه السمراء لرجال بنوا الأرض وعمروها حتى حولوها إلى لؤلؤة رائعة تقبع في الشمال، عرعر مدينة خالية من الزحام، متباهية بجدائلها الشقراء، لها عبق معجون من حب وسلام، تحيطها رائحة الليل المبلل بالندى فينساب إليك الهواء عليلاً مثل شلال صغير يعزف أنشودة الماء من غير هدير، مفعماً أنا بحب هذه المدينة النائية، كلما أتجول فيها ترجعني إليها نقطة انطلاقتي من جديد، وددت لو أجوب بروحي الأجواء بحثاً عن أشياء خفية كثيرة وعتيقة، هناك في البعد المقابل لمحت حمائم ضلت طريقها إلى القباب، وأناس أنسل بعضهم لبعض وذاب بعضهم الآخر خلف ظلال المآذن الكبيرة، لطالما أحببت صوت الآذان يسكب في أذني كرحيق سلام سماوي، جدتي كانت تقول بأن صوت المؤذن يبعد الشرور ويطرد الشيطان، أغمضت عيني حينها عندما انعكس فيهما بريق الماضي كشظايا المرايا، بعدها غطى اللون الترابي الكامد كل الألوان، كطفل يطارد الفراشات حاولت اقتناص لحظة انبعثت من بين أكوام الذكريات المبعثرة صورة رائعة لعصفورين منتشيين بحلمهما الصغير تحت زخات مطر ربيعي، كم حاولت بعدها إيجاد تفسير معقول لكل ما يجري حولي من حراك، ما أكثر ما تداخلت الأشياء في رأسي واختلطت شأنها شأن اللوحات السريالية التي يفسرها كل بطريقته دون أن يعلم أحد على وجه الدقة ما قصده الرسام، عندما صارت الشمس تنوراً أحمرا دلفت إلى عمق المدينة، حيث شارع (السمن) المكتظ بالناس والمركبات، الأذرع والأصوات منهمكة ما بين البيع والشراء، عندها رأيت وجه الرجل (جربوع) هذا الرجل العتيق كان كئيباً لكنه شامخ وجسده النحيل كشجرة تشيخ، في يده (قربة) يحاول إصلاح انبعاجها وهو يدندن بفلكلور لم أتبينه بوضوح، صرت أهيم على وجهي أتوحد بالذرات حتى السابح منها في فراغ، مع خيوط الفجر خرجت من بين شقوق العتمة كقناديل البشارة، شعرت بتراب الأرض يحتضن أضلعي يهدهد عظامي بحنو، أغمضت جفني واستسلمت لنوم عميق، أفقت بعدها لأتذكر أن هذه المدينة كانت لا تتجاوز سبعين داراً والعشرات من الخيم وبيوت الشعر حتى اهتزت وربت وأنبتت من مختلف حقول الإبداع الإنساني والعمراني شيئاً مستساغاً، وحتى صار شبابها يحملون الشهادات العليا في مختلف الحقول والعلوم والتخصصات ويعتلون المناصب لهم هم التنمية وهم البناء وهم العطاء الكبير، عرعر مدينة انبثقت اليوم براعمها وصارت تكبر وتميل بأغصانها نحو الضوء حالمة باتجاه التطاول، عرعر مدينة تنسج من خيوط الحياة الكثير لتقهر التراب والرمل وتحيلهما إلى عناقيد ضوء وحبات لؤلؤ، عرعر مدينة عندما أدير ظهري لها مودعاً أحس أن قلبي يلتفت إليها لفرط محبتها ولإيقاع حياتها الهادئ الذي يشعرني بنشوة غير، لكنني أظل أحملها معي إلى آخر شواطئ الحلم ونفس الحياة بعشق أزلي ولأنها تسرقني بمحبتها أو ربما ثمة أشياء خفية أجهلها لما وراء هذه الألفة.