لكن النظرة المتسامحة إلى المجموعات التركية والعربية المسلمة انقلبت إلى نظرة شزر ورعب بعد أن تمادى الإرهابيون (أو الخوارج) باسم الإسلام في أفعالهم العدوانية الموجهة إلى المدنيين والمرافق المدنية منذ الحادي عشر من سبتمبر عام 2001م.
وقد عمل هؤلاء الإرهابيون ومن يشاكلهم من المتطرفين الإسلاميين داخل المجتمعات الغربية على رسم صورة قاتمة للإسلام، لا يظهر فيها هذا الدين السمح الحنيف في نظر أهل الغرب إلا شاهراً خنجره في وجوههم، سالباً منهم الشعور بالأمان، فقدموا بذلك للمتطرفين والشوفينيين الأوربيين على طبق من ذهب الحجة التي يرمون بها على الإسلام ما ليس فيه ويصورونه عدواً يحاربهم في عقر دارهم ليقضي على حضارتهم ووجودهم كما تشهد على ذلك أفعال بنيه.
ولهذا صار الحديث اليوم في ألمانيا عن المسلم وليس التركي أو العربي، وصارت تلصق كل السلبيات من عدوانية وجهل وتقوقع وجريمة - بشخص المسلم وصار أصحاب الميول اليمينية والقومية المتطرفة يحذرون من أسلمة ألمانيا. ويبرزون معادلة في غاية البساطة مضمونها أن الألمان يتناقصون عدداً بسبب ضعف الإنجاب ويشيخون بسبب ارتفاع المستوى الصحي، أما المسلمون (وهنا يقصدون الأتراك غالباً الذين يمثلون 6% من سكان ألمانيا)، فإنهم يتوالدون بسرعة وبكثرة وسوف تكون لهم اليد العليا يوماً ما. وحيث إن هؤلاء الملايين من الأجانب لا يمكن إعادتهم إلى بلادهم بعد أن عاشوا سنين طوالاً في ألمانيا، فقد اشتدت الدعوة إلى العمل على تأهيل الأجانب المسلمين - وخصوصاً الأتراك - ثقافياً للاندماج في المجتمع الألماني وربط الإقامة واستحقاق المعونة الاجتماعية بالانخراط في برامج التأهيل (ويشمل ذلك تعلم اللغة الألمانية والتاريخ الألماني) وتحسين المستوى التعليمي لأطفالهم، وتدريب معلمي الدروس الدينية وخطباء الجمعة على اتباع المنهج المعتدل ومراقبة أنشطة الجمعيات الإسلامية.
وفي العام السابق (2010م) بزغ نجم (سارازين) - القيادي السابق في حكومة برلين ثم العضو في مجلس إدارة البنك المركزي الألماني قبل إقالته - عندما ألف كتاباً عنوانه (ألمانيا تضمحل...!) تضمن العديد من الادعاءات حول الأجانب المسلمين أبرزها:
- إنهم كسالى لا يعملون، ومعظمهم يحصل على إعانة البطالة، ومن ثم فإنهم عبء على الاقتصاد الألماني.
- إن نسبة حوادث الإجرام عالية بينهم مقارنة بالمجموعات السكانية الأخرى.
- إن انخفاض مستوى الذكاء صفة وراثية يشتركون فيها، ومؤشر ذلك ضآلة التحصيل المدرسي.
- إنهم يكرهون الألمان بدليل أن نسبة الزواج من الألمان أقل من غيرهم.
- إنهم متمسكون بتقاليدهم (الإسلامية) التي تتنافر مع أعراف المجتمع الألماني.
ويرى الكتاب أن الحكومة الألمانية قصرت أو فشلت في تطبيق برامج اندماج الأجانب المسلمين. وتضمن الكتاب العديد من الإحصاءات والنصوص التي وظفها لتأييد ادعاءاته. وقد لقي الكتاب عند صدوره الكثير من الاستنكار والنقد من سياسيين ومثقفين ومن الصحافة المحترمة، وعلى الأخص حول تشبهه هنا بأيدلوجية الحزب النازي في النقاء الوراثي. وقد أوردت مجلة (دير شبيجل) - التي رجعت إلى بعض أعدادها الصادرة في النصف الثاني من عام 2010م لتحرير هذا المقال - معلومات من عدة خبراء فندت بها ادعاءات (سارازين)؛ إلا أن الكتاب لقي تهليلاً وتمجيداً على مستوى الجمهور والصحافة الشعبية ومن الأطراف اليمينية ذات الاتجاه القومي ضيق الأفق. وتخطف الجمهور الكتاب حتى أنه طبع منه بعد أشهر قليلة مليون وربع المليون نسخة بحيث أصبح أكثر الكتب انتشاراً منذ عام 1945م (وفقاً لما أوردته نفس المجلة) والشعب الألماني في غالبيته العظمى شعب متحضر منضبط في سلوكه العام، لذلك لم يكن يطلق العنان لمشاعر الكراهية أو الغضب تجاه الأجانب ولم يكن يتعاطف مع حوادث الاعتداء عليهم. أما تفسير اندفاع الجمهور لشراء الكتاب المذكور فهو إنه وجد أن المؤلف يعبر نيابة عنه عن مشاعر الاستياء التي لا يريدون أن يطلقوا لها العنان تجاه وضع الأجانب وعن خيبة الأمل تجاه فشل الحكومة في تصحيح هذا الوضع.
عندما أعود بالذاكرة إلى ستينيات وسبعينيات القرن الماضي أتذكر كيف كان الأجانب المسلمون - أتراكاً وعرباً وغيرهم - يؤدون شعائرهم الدينية ويعيشون حياتهم المعتادة باطمئنان دون أن يرى الألمان في ذلك ما يثير استياءهم، فقد كانت تمارس وسط مجتمع من الأقليات غير مندمج مع المجتمع الألماني الكبير. وربما نظر بعض الألمان بإعجاب إلى الطابع الشرقي الروحاني مقارنة بطغيان الطابع المادي على طريقة الحياة الغربية. ولم تكن الساحة الثقافية في ألمانيا خالية من المعجبين بالحضارة الإسلامية، وبعضهم مستشرقون وبعضهم أدباء ومفكرون. ومن أشهر الكتب التي أشادت بالحضارة الإسلامية كتاب سيجريد هونكه (شمس الله تشرق على الغرب). وخلال السنوات الأربعين التي سبقت الحادي عشر من سبتمبر أضاع المسلمون في أوربا عامة وفي ألمانيا خاصة، فرصة ذهبية يظهرون فيها الوجه المضيء للإسلام في تسامحه ووسطيته وقيامه على مكارم الأخلاق وحب الغير والتعارف بين الشعوب. ولا يزال بإمكان العلماء المسلمين ذوي الفكر العصري والأفق الواسع أن يوجدوا الروابط مع كيانات المجتمع الشرقي الإسلامي في أوروبا ليساهموا في تعميق مفاهيم التسامح والاعتدال في الإسلام وتوعيتهم بأخلاقياته وبث روح الدين الصحيح بينهم وحثهم على التفاعل الإيجابي مع المجتمع الكبير الذي يعيشون بين ظهرانيه، دون أن يضطروا للتنازل عن جذورهم العقدية والثقافية. فإن لم يفعلوا ذلك وتركوا الأمر للغلاة والمتطرفين المسيّسين للإسلام، فإن الحالة العدائية سوف تتفاقم، وسوف يجد المتطرفون على الجانب الآخر - كما نرى في حالة (سارازين) وقبله (جيرت فيلدر) في هولندا - مسوغاً في النظر إلى كل أجنبي مسلم في ديارهم على أنه خطر إسلامي محتمل، وهم واثقون أنه لن يتهمهم أحد بإثارة مشاعر الكراهية والسخط نحو مجتمع الأجانب، بل سيدّعون بأن مشاعر الكراهية والعداء صادرة من هؤلاء الأجانب الذين ينتمي إليهم الإرهابيون. لا يزال إذن بإمكان العلماء والمثقفين المسلمين المتنورين أن يمحوا هذه الصورة البغيضة. إن الفرصة متاحة لذلك لأن المجتمع الألماني المتشيخ بحاجة للشباب المسلم لكي يواصل حركة الازدهار الاقتصادي والصناعي. وعندما يلتقي الفكر السياسي والثقافي الألماني مع ثوابت الثقافة الشرقية الإسلامية في منتصف الطريق بدون استعلاء علماني وثقافي وبدون تشبث شرقي بالعزلة الثقافية أو الانسياق وراء دعاة الغلو والتطرف، فإن المجتمع الألماني سيصبح أكثر اتساعاً وديناميكية ولن يخيفه المرجفون بفوبيا الاضمحلال.