الأمريكيون.. لا يخفون شيئاً، وهذه إحدى مزاياهم(!!).. فقد حضروا في (مهرجان) الاستفتاء على تقرير مصير جنوب السودان: بـ(الانفصال) عن (شماله) أو بـ(الوحدة) معه، الذي بدأت فعالياته منذ الثامنة صباحاً من يوم الأحد (التاسع من يناير عام 2011م).. بقضهم وقضيضهم:
بـ«إعلامهم» ونفوذهم واستخباراتهم ووعودهم ب «الجنة» والخير الوفير ل «الحفاة» والعراة والجائعين من أبناء جنوب السودان.. كما للابسي «الجينز» و»ال T شيرت» والأحذية الأمريكية الغليظة منهم، إن هم صوتوا ل «الانفصال» عن الشمال.. يتقدمهم (السيناتور جون كيري) رئيس لجنة الشؤون الخارجية ب «الكونجرس» الأمريكي، الذي فشل في انتزاع كرسي الرئاسة الأمريكية من جورج بوش الابن في دورة رئاسته الثانية.. وهو يصحب (نائب رئيس حكومة الوحدة الوطنية) سيلفاكير.. في ذلك الصباح الباكر إلى مركز الاقتراع الذي سُمي باسم زعيم الحركة الانفصالية الخالد!! كما يراه الجنوبيون (جون قرنق).. ليتأكد من تصويته لخيار «الانفصال» الذي لم يكن محل شك بالنسبة (لسيلفاكير) نائب رئيس «دولة الوحدة»!! ففعل ذلك بكل بشر وسعادة.. بل واستبدل قبعته بتلك القبعة الأمريكية التي أحضرها له السيناتور جون كيري، ليعلن بعد ذلك لعشرات الصحفيين والإعلاميين (الأمريكيين في معظمهم).. قائلاً: (إنه لأمر رائع أن نرى سيلفاكير يقترع. إن هذا العمل جاء نتيجة عمليات تفاوض طويلة، وبعد إزالة الكثير من العقبات).. التي بذلت الولايات المتحدة كل جهودها - بالتأكيد!! - لإزالتها وهي تموه كالعادة بحقوق الإنسان المنتهكة في الجنوب، وبالحروب الأهلية التي فتكت بملايين الجنوبيين وشردت مثلهم، وبالتفرقة الدينية التي يعاني منها مسيحيو الجنوب.. إلى آخر المعزوفة الأمريكية التي سئمها العالم.
بينما كان زميله في «المهمة» الرئيس الديمقراطي الأسبق جيمي كارتر.. يطير من «جوبا» إلى «الخرطوم» في محاولة مبكرة مكشوفة لانتزاع تصريح من الرئيس البشير ب «إعفاء» الجنوب من حصته في الدين العام (36 مليار دولار).. التي ستترتب عليه إن اختار «الانفصال»، فلما لم يحصل عليه صراحة.. عمد إلى التصريح لقناة ال C.N.N الأمريكية المصاحبة.. قائلاً: «تحدثت مع الرئيس البشير، فقال إن الدين بأسره ينبغي أن يؤول إلى شمال السودان لا الجزء الجنوبي.. لذا يمكن القول بأن جنوب السودان سيبدأ بصفحة بيضاء على صعيد الديون»..!!، ولسنا نريد أن نتهم شيخاً ك «الرئيس كارتر» بالكذب.. إلا أن حكومة الرئيس البشير نفت ما قاله جملةً وتفصيلاً..!!
على أن الرئيس الأمريكي (نفسه) باراك أوباما ول (الإنصاف)!! كان أكثر تريثاًَ من سلفه الأسبق والأقدم «هاري ترومان» - قبل ثلاثة وستين عاماً - الذي اعترف بقرار (تقسيم فلسطين) بين اليهود والعرب.. بعد ست دقائق من تصويت الجمعية العامة للأمم المتحدة عليه، وقد كان في عزمه أن يفعل ذلك.. حتى قبل إجراء عملية التصويت على (القرار) لولا نصائح مستشاريه بمنعه من ذلك إرضاء لأصدقائه العرب(!!).. فقد هنأ الرئيس أوباما.. في اليوم الثاني من أيام الاستفتاء السبعة، وفي بيان صادر عن البيت الأبيض: (شعب الجنوب على تقرير مصيره).. وهو يصف الاستفتاء بأنه «خطوة تاريخية تهدف إلى تنفيذ اتفاقية السلام الشامل لضمان تعايش جميع الأطراف والتزامها بتعهداتها في أنحاء السودان»، بينما سرب وزير رئاسة مجلس وزراء جنوب السودان السيد (لوكابيونق) خبراً يؤكد براءة «واشنطن» من دم الاستفتاء ونتائجه(!!) عندما قال (إن واشنطن تجري اتصالات لاختيار سفيرها للدولة الجديدة في الجنوب.. حال الانفصال)، بل.. وبأنه سيكون أحد هؤلاء الثلاثة: (تيك نايتي أو روجر وينتر أو جون ينتفس أحد رؤساء منظمات المجتمع المدني الأمريكية..!!
لقد كان مشهد افتتاح (مهرجان) الاستفتاء عبر ما تناقلته الإذاعات والقنوات الفضائية العربية والأمريكية أمريكياً بشعاً بأكثر مما يجب، وبأكثر مما تحتمله الأعراف والتقاليد الديبلوماسية.. حافلاً وحاشداً بسبعة عشر ألف مراقب محلي كما قيل (أشك في إمكانية وجودهم.. أصلاً)، وألف ومائتي مراقب أجنبي نصفهم من الأمريكيين والإسرائيليين.. مزروعاً بالأمريكيين من مختلف مستوياتهم وطبقاتهم في كل موقع، فإلى جانب «كيري» و»كارتر».. كان هناك موفد أمريكي خاص هو (المستر سكوت غريشون).. الذي قال وهو يتنقل من مركز اقتراع لآخر في (جوبا) العاصمة الإقليمية لجنوب السودان، والتي ستصبح عاصمة لدولة جنوب السودان الجديدة.. التي أراد أصحابها تسميتها ب «جمهورية النيل» لولا غضبة مصر: (في حال أصبح الجنوب مستقلاً، ستكون هناك حاجة للقيام بالكثير مع ولادة دولة جديدة، ولكن بإمكان الشمال والجنوب الاعتماد على دعمنا).. يا سلام!!.. وهكذا من صوت أمريكي لآخر، وكأنه لم يغب أحد من الأمريكيين عن هذا المهرجان، فقد كان حتى الفن السابع حاضراً، وممثلاً - هو الآخر - بوجود السينمائي الأمريكي المعروف الممثل جورج كلوني. لكن الغائب الحاضر.. في كل ما جرى من قبل وما سيجري من بعد وإلى يوم إعلان نتيجة «الاستفتاء».. هي (إسرائيل)، التي ستظهر حينها.. لتكون في طليعة المحتفلين بقيام (إسرائيل السوداء) في أطراف القارة الأفريقية.. أما الآن فهي تختفي - بناء على النصائح الأمريكية الساذجة - عن مشهد هذا «الاستفتاء» الذي أسميته ب»المهرجان» نظراً لطبيعته الاحتفالية الطاغية، وكأنه حفل مبكر - بميلاد دولة الانفصال.. أو دولة جنوب السودان الجديدة، وليس استفتاءً على «تقسيم» وطن وأمة.. إلى وطنين وأمتين!؟
ولأن الأسباب طويلة.. في استرجاع حقبها التاريخية التي أوصلت «السودان» إلى هذه المحطة الحالكة الظلمة في حياته وحياة العرب اللاهين من حوله عن مصائرهم الحادة والقاصمة، فإنني سأكتفي ب «الوقوف» عند آخرها.. وأعني بها (اتفاقية نيفاشا) التي جرى التوقيع عليها في التاسع من يناير من عام 2005م بين «حزب المؤتمر الوطني» الحاكم و»الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الدكتور جون قرنق قائد الحركة الانفصالية الأولى وملهمها، الذي لم ينس نائب الرئيس السوداني (سيلفاكير) أن يحييه.. عند وضعه بطاقة اقتراعه لصالح «الانفصال».. قائلاً: (أقول للدكتور جون قرنق ولكل الذين قُتلوا معه.. إن جهودهم لم تذهب سدى).. إشارة للطائرة العسكرية التي انفجرت به وبرفاقه بعد شهر من توقيع الاتفاقية في كينيا، ف «الاتفاقية» كانت بين «طرفين» لا يجمع بينهما أيديولوجياً وسياسياً.. أي جامع، فرئيس حزب المؤتمر الوطني الحاكم.. يسعى إلى الاستمرار في حكم السودان حكماً «ثيوقراطياً» ذي طبيعة دينية، بينما رئيس الحركة الشعبية لتحرير السودان يسعى إلى الوصول إلى دولة علمانية (تستعلي بقيمة المواطنة على أي قيمة أخرى).. كما قال أحد الكتاب السودانيين، ومع ذلك استطاع الدكتور قرنق أن يأخذ لنفسه - من تلك الاتفاقية - ودون وجه حق.. حق تقرير المصير (بين الانفصال عن الشمال أو الوحدة معه).. «حصرياً» لأبناء جنوب السودان وحدهم، والبالغ عدد المسجلين منهم ل «الاستفتاء» ثلاثة ملايين وثمانمائة ألف مواطن جنوبي.. إلى جانب مائة وعشرين ألف مواطن جنوبي في الشمال، أما بقية الواحد والأربعين مليون سوداني.. فقد تنازل الرئيس البشير عن حقهم في هذا الاستفتاء، وإبداء الرأي حول «انفصال» وطنهم أو استمرار «وحدته»!! وهو أمر لم يعرفه تاريخ الاستفتاءات المماثلة التي شهدها العالم، ولعل آخرها.. الاستفتاء الذي جرى في (كندا) على انفصال مقاطعة (كيبيك) الكندية الفرنسية.. الذي شارك فيه الكنديون جميعاً وليس مواطنو مقاطعة (كيبيك) الفرنسية وفشل بنسبة 60%، بينما أعطى الاستفتاء الجنوبي.. ذات النسبة - ال 60% - لمرور مشروع «الانفصال» وهو ما يعني أصوات مليوني وربع المليون تقريباً من مجموع الأصوات صاحبة الحق في الاستفتاء.. وهو ما تحقق بعد الأيام الأولى من الاستفتاء!؟
وإذا كان من إيجابيات «اتفاقية نيفاشا».. تشكيل حكومة وحدة وطنية برئاسة (رئيس حزب المؤتمر الوطني) ونيابة (رئيس الحركة الشعبية لتحرير السودان)، وتوزير تسعة من الجنوب واقتسام النفط بالتساوي بين الشمال والجنوب.. لجعل خيار الوحدة «جاذباً» لأبناء الجنوب، عند الاستفتاء عليه.. بعد ست سنوات، إلا أن الرئيس البشير تحرك خلالها.. تحت مخاوفه من فزاعة محكمة الجنايات الدولية التي تستخدمها الولايات المتحدة دون أن تقع في طائلة أحكامها (لم توقع على بروتوكول إنشائها)، وفي محاصرة المعارضين السودانيين وتلك الانفجارات التي توالت عليه بدعم أمريكي.. حيناً في (أبيي) وحيناً في (بحر الغزال)، وعلى الدوام في (دارفور)، فلم يفعل شيئاً على أرض الواقع يُنسي الجنوبيين حلمهم الانفصالي.. كإنجاز مشروع «دستور وطني» يصوغه عقلاء الشمال والجنوب معاً، ويرضى عنه أبناء الوطن كله دون تفرقة.. لطرحه للاستفتاء عليه، بدلاً من أن يتركوا فارغي الأيدي والأحلام.. لهذا الاستفتاء الظالم لحاضر السودان ومستقبله وتاريخه العربي الطويل!!
بينما تحرك «سيلفاكير» خلال تلك السنوات وفق أجندته الانفصالية.. المعتمدة على الدعم الأمريكي الظاهر، والإسرائيلي المستتر.. وهو يعطي الرئيس البشير أفضل قبلاته وعناقه كلما التقى به سواء في «الخرطوم» أو في «جوبا»، ليكون خيار الانفصال في النهاية.. حتمياً لا راد له.
أما العرب عموماً.. والمشغولون بأنفسهم، فهم في حالة غياب أو غيبوبة.. بمن فيهم أولئك الذين يعني استمرار «وحدة السودان» لهم.. حياة، وقيام «الانفصال».. خطراً مباشراً على وجودهم. لتمضي مقصلة الانفصال في جز عنق الوحدة حتى النهاية.. فتهنأ (الويلات) أقصد الولايات المتحدة - وحليفتها الاستراتيجية إسرائيل - بهذا (الإنجاز) الذي سيعيدها فوراً ليس إلى (نفط) الجنوب السوداني الذي خُلعت منه عام 2003، بل وإلى مياهه الوفيرة.. حيث النيل ومنابعه!!