|
في الجزء الأول من هذا المقال (نشرفي هذه الجريدة بتاريخ 5-7-1431هـ) تكلمت عن رحلة قمت بها بصحبة إخوان أفاضل آل ضويان من (مدينة الشعراء) عبدالله وخالد وابنه محمد وعثمان، ومحمد بن سعد اليحيى وعبدالله البليهي وقلت شيئا قليلا عن منطقة الحصاة (حصاة قحطان وحصاة ابن حويل) والواقعة جنوبا عن طريق الرياض-الطائف وشرقا عن عروق سبيع، وشمالا عن الهضب..
|
..وقد تركنا (لا مار) بمعادنه القديمة والجديدة يسارا، ومررنا بعد الحصاة بقرى ومراكز: قيران وجاحد وغيرهما، وقبل جاحد انتهى الإسفلت الذي يستمر
|
|
|
وقلت هناك إننا وصلنا منطقة الهضب (وكنت أظنها قبل أن أراها صحراء منبسطة فإذا فيها الجبال والهضاب والأودية والشعاب، وفيها من الجبال (الدخول) و(حومل) و(أم عنيق) و(صاقب) و(الأميلاح: تصغير الأميلح أو المليح) و(الحمرة) وغيرها، وفي بعض جبالها شركات تقطع الصخور وتحيلها إلى بلاط، كما في (أم عنيق) و(الأميلاح)، وفي بعض هذه الجبال كهوف (غيران) عميقة وكبيرة.
|
انقطع الاتصال وانتهى الإسفلت
|
قبل الدخول في منطقة الهضب تعطل الاتصال لعدم وجود تغطية للجوالات وكذلك انتهى الإسفلت، فمررنا بمحطة (الحمل) (بفتح الميم) وهو كما تعرفون صغير الضأن، ووجدنا فيها –إضافة إلى النِّفط- (الثريا) لمن يريد مكالمة أهله أو ولده أو (خطيبته). أما بقية المحطات والقرى التي مررنا بها فلم نجد فيها (الثريا)
|
أيها المنكح الثريا سهيلا |
عمرك الله كيف يلتقيان |
هي شامية إذا ما استقلت |
وسهيل إذا ما استقل يماني |
ومن أقوالنا في التحدي (لو تحب الثريا).
|
|
وفي الليل حيث لا يوجد قمر ولا كهرباء ترى السماء الصافية بكواكبها ونجومها المتلألئة، وهنا ترى السماء جميلة رائعة مليئة بالنجوم، وتختلف في الإضاءة بين قوية وضعيفة، وفي الحجم بين صغيرة وكبيرة، وربما يعود هذا لبعدها وقربها منا.
|
وللفلكيين المتأخرين جهود في وضع خرائط للسماء، أذكر منهم: عبدالعزيز الشمري في معهد الفلك بمدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية، وصالح العجيري (الكويت)، ود. محمد المقري من كلية الملك عبدالعزيز الحربية الذي وضع -إضافة لخارطة السماء- اسطرلابا جميلا يريك أسماء النجوم ومواقعها، وأحمد الوشمي، ومحمد الرشودي، وعادل محمد (الكويت) وعبدالله المسند، وعبدالرحمن الفهيد وغيرهم.
|
|
ومن القلائل الذين برعوا في معرفة الفلك والكواكب والنجوم الطبيب د. محمد بن سعد المبارك (من حريملاء)، فإنه يعرف كثيرا في الفلك والأنواء والنجوم، وهو الذي أرشدني لكتاب (ابن الصوفي) في الفلك وأهداه لي مشكورا، وهو الذي يُري رفاقه في الصحراء النجوم والكواكب بأسمائها، وينوي تأليف كتاب في ذلك.
|
وكلما رأيته رجوته أن يكمل هذا الكتاب الذي سيسد فراغا في هذا الباب، وليس هذا تقليلا لشأن الكتب المؤلفة، ولكن لما أعرفه من سعة اطلاع أبي سعد في هذا الموضوع.
|
|
كنت سآخذ معي صفائح من الثلج تكفينا أياما لأن أكياس الثلج تذوب بسرعة، إلا أني لم أجد في محطة طريق سدير القصيم ثلجا، وقيل لي إن الأمانة أزالت (الكشك) الذي يبيع الثلج، فذهب ابني ماجد لمصنع الثلج الموجود غرب مستشفى الشميسي، فوجد المصنع (خاويا) أي ليس به شيء.
|
فلهذا ذاب الثلج القليل معنا، ولم نجد ثلجا في المحطات الموجودة في الهضب حتى وصلنا بيشة.
|
الطريق من المزاحمية إلى بيشة
|
من جسر جديد غرب المزاحمية ينطلق هذا الطريق وسط الرمال (في أوله) متجها ل الرين (الريب قديما)، ثم يتجه لبيشة مرورا ببعض المراكز مثل (النميص) و(عسيلة)، وربما (الحمل). وقبل تقاطع هذا الطريق بالطريق الموصل بين وادي الدواسر ورنية وجدنا التمهيد (الطريق الترابي) الذي يسبق الإسفلت، وبعد التقاطع وجدنا الإسفلت القادم من بيشة ليلتقي بالقادم من المزاحمية، وبقي على الوصول إلى بيشة 150 كيلا.
|
|
وفي هذه المناطق نجد الربيع والعشب والخضرة، كما نواجه الجدب والأشجار الميتة حتى (الحرمل) الذي لا يموت (لا يعطش) وجدناه هنا عطشانا يابسا في بعض المناطق.
|
|
تألمنا كثيرا لمشاهدة أشجار مقطوعة من نوع السمر الموجودة بكثرة في هذه المناطق متلفة ومقطوعة (الاحتطاب الجائر).
|
|
وفي هذه المناطق أوصلنا دليل الرحلة محمد اليحيى بجهازه لوادي سقمان وبه سد مبني بالإسمنت، لم أجد من يخبرني بمن بناه، وبقربه آبار محفورة، يستقي منها الناس وخاصة الأعراب يملأون صهاريجهم (وايتاتهم) منها.
|
|
ومررنا ببعضهم يحاولون تعبئة صهاريجهم بواسطة مضخات صغيرة متنقلة (مواطير)، ولكنهم ظلوا ساعات يحاولون تشغيل تلك (المواطير) التي لم تستجب، فتمنينا أن تقوم الحكومة ممثلة بوزارة الزراعة أو البلديات بوضع مضخات كبيرة هنا وفي آبار الدخول وغيرها لتريح الناس من هذا العناء الذي يلاقونه.
|
|
وبعد تقاطع طريق االمزاحمية-بيشة (تحت الإنشاء) مع طريق وادي الدواسر-رنية وجدنا الأرض خضراء، تنتشر فيها أذواد الإبل التي توافدت طلبا للرعي.
|
|
اشتهرت بيشة بتمورها (الصفري والسري)، وكانت تغذي كثيرا من المناطق المجاورة لها وغير المجاورة بتمورها، ولأهميتها ولعدم وجود طرق معبدة تصلها بغيرها وُضع بها مطار في وقت متقدم.
|
ومن أقوالهم فيها: - (ما ورا بيشة عيشة) وهذه العبارة تحتمل معنيين:
|
1- العيشة .. في بيشة فقط، أي ليس وراءها عيشة، أو هي أكثر من غيرها عيشة.
|
2- ما في بيشة عيشة، وهذه غير واردة، ولا يليق أن توصف بها بيشة المشهورة بتمورها وخيراتها وأهلها الطيبين.
|
- لو مع بيشة بيشة لكثرت العيشة.
|
|
لما وصلنا ضواحي بيشة صدمنا بمنظر آلمنا كثيرا، إنه موت النخيل في كل مكان مررنا به قبل وصول المدينة، وسمعت أن السبب قلة الأمطار، وقد يكون غير ذلك.
|
|
قررنا زيارة سد بيشة المشهور الذي قيل إنه أكبر سد في المملكة، فاتجهنا إليه عبر وادي بيشة حوالي 30 كيلا، والنخيل يمنة ويسرة ميتة (أعجاز نخل خاوية). قلت إنه قيل إن سد بيشة هو أكبر سد في المملكة فلما وصلنا بوابته منعنا من الوصول إليه بسبب الأوامر فرجعنا أدراجنا للمدينة عبر هذه النخيل الميتة التي يدمي منظرها القلوب، ولكنا إرادة الله ولا راد لقضائه.
|
|
وسمعت من يقول إن وزارة المياه صنعت سدا عميقا بجانب السد الظاهر يمنع تسرب المياه للنخيل والمزارع بقصد توفير المياه للشرب، ثم سمعت أن هذا صنع في سد رنية أو تربة لتوفير المياه للطائف وليس في بيشة والله أعلم.
|
|
بعد أن غادرنا (بيشة) متجهين لرنية مررنا بوادي بيشة وعليه جسر (لا كوبري) طويل.
|
|
وصلنا (رنية) بعد حوالي 150 كيلا، وأول ما شاهدنا في مدخلها مجسمين لمبنيي المملكة والفيصلية في الرياض.
|
وبعد أن تزودنا بالثلج والماء وغيرهما غادرنا إلى (الخرمة) فمررنا بوادي رنية، وهو أقل من وادي بيشة.
|
طريق من هنا إلى الدخول وحومل
|
قال دليلنا الأستاذ محمد بن سعد بن يحيى إن طريقا ترابيا ينطلق من بعد رنية بـ 25 كيلا يتجه شرقا إلى الدخول وحومل في الهضب عبر (خلّ) في رمال عرق سبيع وهذا ما أكده أبو نايف السبيعي من أهل تلك المناطق (ابن بجدتها)، وأهل مكة أدرى بشعابها.
|
|
وبعد رنية أو الخرمة (الشك من الكاتب) رأينا على يميننا جبلا شامخا ينطلق من أعلاه جبل طويل يشبه البرج يسمونه (حق الخثعمي)، ويوجد مثله في الطريق بين سكاكا (في منطقة الجوف) وبين القريات أو غيرها (نسي آدم فنسيت ذريته)، كما يوجد غيرهما.
|
|
الطريق بين رنية والخرمة 150 كيلا سيء، وليس به أكتاف ويحتاج للفتة سريعة من وزارة النقل، كما تفعل الآن في الطريق بين الخرمة وطريق الرياض الطائف حيث يجري العمل على (رِجْل) وساق ليكون مزدوجا أي بفاصل بين الذاهب والقادم.
|
|
أحب الإخوان رؤية (الوعبة) (مقلع طمية) ليراها من لم يرها من قبل، 90 كيلا من طريق الرياض-الطائف قرب (المويه) التي جعلتها وزارة النقل (الموية) كما جعلت ظَلْم ظالم في الترجمة الإنجليزية وكذلك (من الكرَم) جعلت (شويه) (شوية)، و(الجله) (الجلة) وبدون كسرة على الجيم وسكون على اللام، وهنا قد يقرأها من لا يعرفها بفتح الجيم وتشديد اللام المفتوحة وهذا ما لا يرضي أهلها ولا يرضي أحدا.
|
استمتعنا بمنظر المقلع وجلسنا في ظل إحدى المظلات التي وضعتها بلدية المويه (لا الموية).
|
|
كانت الغزلان موجودة بكثرة في بلادنا فلما جاءت السيارات أفنوها به، ثم اتجهوا للأرانب فأفنوها، وبقيت الضبان (جمع ضب) فبدأوا بها وما زالوا يبيدونها.
|
وفي رحلتنا هذه لم نرَ سوى ضبين اثنين تركناهما يدخلان في بيتيهما (حامضة) ولم نشأ التنكيد عليهما بحفر بيتيهما أو إغراقهما فيهما بالماء لئلا نفعل كما فعل صاحب الشداد والأرنب الذي لما رأى أرنبا تحت شجرة أوقف بعيره ونزل وكسر شداده وأوقد في خشبه النار واتجه للأرنب ليصطادها ويشويها، فهربت، فخسر الشداد وفاته الأرنب، ولهذا يضرب به المثل.
|
أعود للضب الذي كان الواحد منا يمرر يده على ظهره ويقول (ضب الحرشي وين يمناك من يسراك).
|
وكانوا يقولون إذا وقفوا على بيت الضب (يا ابو حمد عجل وابروح، يا ابو حمد ودي تسلم عليّه).
|
ولما سمع أحدهم الحديث -الذي فيه- (حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه). أخرجاه، فظن أخونا أنهما أخرجا الضب فقال: (لا والله النشامى).
|
وألفت كتب عدة عن الضبان لا أتذكر أسماءها الآن، وبعض الأعراب يفضلون لحم الضب على السمك، ولهم أشعار في ذلك موجودة عندي في ملف الطرائف.
|
|
لا أريد أن أتحدث عن كتابي (صبا نجد.. نجد في الشعر والنثر) ولكني أتلو عليكم منه البيت المشهور.
|
ألا يا صبا نجد متى هجتِ من نجد |
لقد زادني مسراكِ وجدا على وجد |
|
تمتع من شميم عرار نجد |
فما بعد العشية من عرار |
ولما تلوتهما في مجلس بادر صديق بقول هذا البيت:
|
دعاني من نجد فإن سنينه |
لعبن بنا شيبا وشيبننا مردا |
فقلت: واحدة بواحدة والبادئ (أفضل).
|
وفي الصحراء والأرياف والقرى فوائد عدة، ذكرتها مرة في أحد مقالاتي.. منها:
|
|
|
3- المناظر الجميلة جبال ورمال وأشجار وإبل وغيرها.
|
4- الأفق الممتد البعيد، فلا يحجب نظرك حاجب من جدران، ولا تؤذي عينيك الأنوار.
|
5- ثم الماء والخضرة والجو الحسن (أو الوجه الحسن).
|
|
يرى الأستاذ الشاعر الأديب عمران بن محمد العمران أن الدخول وحومل وأخوانهما ليسا في الهضب، وأن هذه المناطق ليست بلاد كندة.
|
بينما يرى الأستاذ الشاعر الباحث المؤرخ النسابة معيض البخيتان أن هذه المناطق هي بلاد كندة، وأن الدخول وحومل وأخواتهما في هذه الأماكن.
|
وهاتفني الأستاذ حمود النافع صاحب كتاب شعراء الزلفي 3 مجلدات وقال إن له رأي في ذلك سيخبرني به إذا التقينا.
|
|
وسمعت من الشيخ عبدالله بن محمد الضويان (في رحلتنا) هذه الأبيات لسعود بن نايف بن عون:
|
بانت هضاب (الدخول) وبانت (الحمة) |
وأهلي ورا ما زمى يا ربع يومين |
ياللي تجي صاحبي وجه النضا يمه |
اجيه فوق النضا كان متباطيني |
أبو نهود بصدره باول الزمه |
تشدي بيض الحمام وكنها الصيني |
|
رجعنا للرياض بعد ستة أيام استمتعنا فيها بجمال الصحراء وهوائها الطلق الصحي، بعيدا عن ضجيج المدن وتلوثها وضوضائها، واستمتعنا بالتحلق حول (الضو) النار، ودفئها ومنظرها الجميل، أعاذنا الله من النار (الصقيّة)، ويقول العرب لمن لا يشعل نارا (يا طافي النار).
|
والأهم من ذلك كله أننا استفدنا من حفظ الأخ عبدالله بن محمد بن ضويان فيما يرويه من قصص وبطولات وشعر لأهل مدينة (الشعراء) وغيرهم، ومثله فعل أخوه الشاعر خالد، وزاد عليه بقصص وشعر له ولغيره. كما أنسنا بدماثة أخلاقهما، وبقية زملاء الرحلة فشكرا لهم جميعا، وأقول لكل واحد منهم: (استروا ما واجهكم)، ففي الصحراء تحلو القفشات والطرائف والمقالب والألغاز ونحوها.
|
والشكر الكثير لأبي محمد عثمان الضويان، وللشهم محمد بن خالد الضويان الذي خدم والده وعميه وزملاءه أكبر خدمة، فهو (دينمو) الرحلة.
|
أما الدليل وجهازه فلهما نصيب كبير من الشكر والتقدير، ولعل لي ولأبي إبراهيم بعض الشكر إن رضي زملاؤنا.
|
الرياض - البير |
www.abu-gais.com |
|