لا يزال العقل الفلسفي العربي بفعل ما يعتوره من أوجه القصور الذاتي يعاني على صعيد القول الفلسفي من تضاعف الشعور بالتبعية وتفاقم جريرة الإمعان الاجتراري وسيادة أجواء من الإمعية التكرارية واستمراء الامّحاء في السِّوى بواسطة تلك المحاكاة التي لا تنفك وتيرتها عن التصاعد.
وعلى سبيل المثال فلو سرحت ناظريك في مناحي المشهد لألفيت الديكارتية طاغية على طه حسين والباشلارية على الجابري وثمة حضور صارخ ل(راسل) في الوضعية المنطقية لزكي محمود، أما تفكيكية جاك دريدا فتمثل الملهم الجوهري لتناولات علي حرب ولا يقل عنه حسن حنفي بالنسبة ل(هوسرل)، وتمعن في أطروحات طيب تيزيني وحسين مروة وعبدالله العروي وستلحظ تلك النزعة التبجيلية للمنقول الماركسي، وغير هؤلاء كُثر، وهو مما أرّق لفيفا من ذوي الحس الفلسفي اليقظ فمضوا في قدح زناد التساؤل عن بواعث الانعتاق من ربقة الذوبان إلى رحابة الإبداع وتسجيل الحضور الإضافي اللافت، ويأتي في طليعة أولئك الفيلسوف طه عبدالرحمن، الذي تناول تلك القضية على مستويات عدة، سأشير إلى ثلاث منها.
الأول: على مستوى الكتابة الفلسفية، حيث يبدي قدرا عاليا من التحفظ على ذلك الانهماك من قِبل الانتلجنسيا الفلسفية في امتياح القالب المعجمي والأسلوبي والدلالي الخاص بالمغاير الذي لا يحضر بوصفه آخر يساهم حضوره في مضاعفة الوعي بالأنا ككيان قائم بذاته، ولا يحضر كضدٍّ يتميز عبره أو بواسطته مضدوده، وإنما يحضر كمؤسس يرسم وجهة سير التفلسف العربي الذي لا يحيد بفعل هشاشة بنيته عما رسم له قيد أنملة حيث الآخر قد ترك ذبذبات جاذبة مارس إثرها ضربا من الهيمنة كبنبة فوقية ملتحمة بالعقل العربي، وهي هيمنة يتزايد حضورها تناميا على هذا الصعيد، ولا يزال العقل الفلسفي العربي يرزح تحت ثقل وطأتها الجاثمة والساحقة لإرادته فلا يحيد عن سبيل نسقها العام بقدر ما يبالغ في التطريز على ضوء مقاساته، وهي مقاسات تخلقت في ملابسات ومكانية لها محدداتها المغايرة، وهذا الإمعان في التقليد هو ما يؤكده الدكتور طه عبدالرحمن حينما قرر أن «من يجرد النظر فيما يوضع من مؤلفات فكرية وما ينجز من أبحاث فلسفية في البلاد العربية في الوقت الراهن يجد أن هذا الإنتاج يدور كله على نفس الاستشكالات والاستدلالات ونفس المسلَّمات والنظريات التي يتضمنها الفضاء الفلسفي العالمي المزعوم، أي أنه لا يعدو أن يكون تقليدا لمحتويات هذا الفضاء تقليدا يزيد سوءه أو ينقص» (الحق العربي في الاختلاف الفلسفي ص66). ومن هنا يدعو إلى ترويج التحرر - كقيمة عليا - من تبعيات تلك الهيمنة للمغاير الذي تعد الفلسفة جزءا من تكوينه الثقافي، والمضي باتجاه تجاوز الأنماط الكلاسيكية - بحسب ذلك عيبا فلسفيا - صوب إبداع تأليف فلسفي أصيل له طابعه الخاص ويتمتع بنكهته الفارقة ولمساته الجمالية ذات المنحى الكيفي الفريد وبنيته المعمارية الصلبة والمتراصة التي إثرها يتوارى إلى الظل كل ممارسة تنبعث من أفق التقليد الكارثي. ولا مراء أن لتلك الدعوة الطاهائية حصتها من الوجاهة ولها منظومة من المسوغات التي تتكئ على معالمها؛ لأن الانعتاق من ربقة أسر اللغات الأخرى هو الضامن الكفيل بتجسيدنا لضرب من الحضور الاستقلالي المتكئ على عمق تراكمي من الفرادة الثقافية التي تجعل منا ندا لا مجرد قطيع يُساق لإعادة إنتاج ما سلف إنتاجه. طبعا لا بد من النقل بيد أنه نقل يُقدَّر بقدره ويرتكز على الوعي والاستيعاب والتأويل واعتماد مبدأ الاستراتيجية التحويلية؛ فهو ليس نقلا ميكانيكيا بقدر ما هو اشتغال يرتكز على مبدأ فلترة المعطيات وتنقية حمولتها من خلال تطويعها وبالتالي تأهيلها للتناغم مع ما يمليه الأفق الثقافي الذي يكتسي به الوسط التداولي. والإبداع ليس بالضرورة أن يتخلق من العدم بل كثير من الأعمال الفلسفية الكبرى قد تَتخذ من المعطى المتعين الذي قد يكون في بعض وجوهه منقولا قد تنبعث من إيحاءاته وتستلهم شيئا من مفرداته فتتخذ منها نواة أو مرقاة أو سُلّما يمهد لانبثاق البنى المفاهيمية الآيلة لمعانقة الإبداع والنفاذ صوب أعماقه. ومن هنا لا بد في سياق الجهاد الفلسفي من «خرق حجاب التقليد الذي ظل مسدلا على العقل الفلسفي العربي ما ينيف على ألف سنة، وتمكين المتفلسف العربي من القدرة على التصرف في المنقول الفلسفي على الوجه الذي يوافق مجاله العربي» (فقه الفلسفة2-34).
الثاني: على مستوى التراث، حيث يندد طه عبدالرحمن بما ينعته ب»النظرة التجزيئية التفاضلية (التي) طغت طغيانا في التقويمات المعاصرة للتراث» (تجديد المنهج في تقويم التراث ص81). ولا ريب أن ثمة مبررًا لتنديده؛ لأن تلك القراءات المتشابكة مع التراث أسقطت عليه مفاهيم أجنبية عنه ولا تنسجم واشتراطات المقتضيات المحورية المتمثلة في العقيدة واللغة والمعرفة، ذلك البعد الثلاثي الذي يفرضه المجال التداولي العربي، وقد آل هذا القالب الاشتباكي إلى الوقوع في فخ النظرة التجزيئية للتراث التي تمارس التجزئة كما هو الحال في مقاربة الدكتور (محمد عابد الجابري) الذي وقع في التناقض؛ إذ في الوقت الذي يرفع فيه شعار الدعوة إلى المعاينة الشمولية والتكاملية والكلية بل ويقرر ذلك وصفا لازما لاشتغالاته وذلك حينما أكد التزامه ب»النظرة الشمولية التي تربط الأجزاء بالكل الذي ينتمي إليه»(نحن والتراث ص58)، ولكن لو تأملنا في أطروحة الجابري المتمحورة حول النظم المعرفية المتحكمة في بنية اللاوعي لألفيناه «لم يباشر بنفسه استخراج الآليات المنهجية للفكر العربي وإنما تولى تقويم ما جاء من تحليل وتنظير بصدد هذه الآليات في نصوص القدامى» (تجديد المنهج في تقويم التراث ص33). وعودا على بدء، فطه عبدالرحمن دعا إلى تجاوز تلك التجزيئية إلى التكاملية، أي «اطراح المناهج التجزيئية وطلب منهج التكامل» (المرجع السابق ص87).
الثالث: على مستوى الترجمة حيث يرى طه عبدالرحمن أنها «السبب الأول الذي أدى إلى أن تعْوج الفلسفة وتموت بين أيدينا فلم يقترن شيء في الفكر الإسلامي العربي بالترجمة اقتران الفلسفة بها» (فقه الفلسفة 2-18). وهنا لا مناص من التفريق بين مستويات المسلك الترجمي وانتخاب المنحى الأكثر ملاءمة؛ وبالتالي إعلاء مستوى رواجه؛ فثمة ترجمة تحصيلية، وهذا اللون يعسر سبل المعرفة على المتلقي ويرشح تفاقم انخفاض قدرته على الاستيعاب بفعل ما يشوبها من آفة التطويل في النقل على نحو «يطول فوق الحاجة ويستغلق على المتلقي استغلاقا؛ فلا ينتفع به إلا قليلا» (المرجع السابق 2-19). وهذا الضرب من الترجمة يتمسك بتمام الشكل التعبيري ويترجم حرفيا كل ما احتواه النص المترجم من لفظ ومعنى. وهذا النمط الترجمي ذو طابع غربي؛ حيث تتخلق بنيته عبر أفق تقديسي للنص الأصلي، هذا التقديس يعزى «إلى كون النصوص الأولى التي شهدت ممارسة الترجمة عليها وعملت في تكوين تصور عن طُرقها كانت هي نصوص التوراة والإنجيل المقدسة.. هذا التوجه الديني غلب على عموم العمل الترجمي فصار المترجم يتعامل مع النصوص غير المقدسة تعامله مع النص المقدس» (الحق العربي في الاختلاف الفلسفي 143). وثمة ترجمة توصيلية تعتمد الحرفية على صعيد المضامين دون حرفية المفردات، وسلبيتها الأبرز أنها تُسقط متعاطيها في فخ التفخيم التهويلي لبعض المضامين ومدّها بأحجام أكبر من مقاساتها؛ الشأن الذي يولد لدى المتلقي شعورا إضافيا بالوهن الذي يثقل كاهله ويشعره بعدم القدرة على الاشتباك المعارضاتي معها فضلا عن أن يتبوأ مقام الندية أو يتسنم موقع النظير، وثمة ترجمة تأصيلية، وهذه ذات طابع انتقائي، أي أنها تنتقي من النص الأصلي ما ينسجم والأصول التداولية التي يأخذ بها المتلقي، إنها تسعى لخلق فضاء يجري فيه أداء التفلسف بتوجيه من إملاءات الهوية لئلا يواصل العقل العربي غيابه عن المقاعد الأمامية في المسرح الكوني. والرؤية التي يتشبث بها طه عبدالرحمن هي أن أجدر الترجمات بنا في هذا التصور الثلاثي للترجمة الفلسفية هي التأصيلية بحسبها الأكثر تقاطعا مع التراث العربي الإسلامي؛ ولذلك هو يرتب التراجم كالآتي: التأصيلية ثم التوصيلية ثم التحصيلية، وهو ترتيب عكسي مقلوب مباين للترتيب المتداول. وهكذا فطه عبدالرحمن، وفي سبيل التأسيس لرسم أفق مستقبلي لقول فلسفي بهوية عربية، يُدعّم فكرة تحرير الترجمة من قيود الاستقطاب الميكانيكي إلى رحاب الترجمة التأصيلية الحصيفة المنضبطة بالشرط التحويلي بحسبها ضربا من الممارسة الناضجة على النحو الذي لا يتعارض ولوازم مقتضى المجال التداولي كسلطة مرجعية لها معياريتها الفريدة.
Abdalla_2015@hotmail.com