بين الفنانين الذين استخدموا البيئة في تشكيل أعمالهم.. والفنانين الذين تعاملوا مع حساسيتها بتبجيل ..والآخرين الذين يعتبرون الضرر القائم على البيئة عملهم الأساسي, والذين يعتبرون محنة الكوكب الذي نعيش عليه رسالتهم الأولى, تقع الرهافة المشتركة بين الفن والبيئة.. إنها النفاذ إلى فطرة الانسجام عن طريق التأمل.. حيث الرصد الدقيق لهذا الشعور بالتكامل معها ينتقل من صورته الشعورية إلى مجازيته الفنية؛ لكي تتجلى البيئة بوصفها كائنًا وقاعدة عضوية.. هبة إلهية عظيمة.
البيئة بمرونتها التي لا يضطر معها الفنان لتشييد مبادئ للعمل بل توحد النظريات والتطبيق في خلاصة التفاعل ذاتها بوصفها موقفًا إنسانيًّا الغاية.. تؤثر بقيمتها في كل الأعمال المتفاعلة والناشئة عنها تقريبا على نحو متناغم ومنتظم مع طبيعة الفن الخلاقة. إن رؤية رزينة وواضحة لتحرر هذا النوع من الفنون من الشروط تسهل عملية إيجاد هوية معاصرة له؛ حيث قضايا البيئة تعطي الشكل الملائم بتفاقمها الملحّ والدائم.
«روزالي غاسكوين» هي أول فنانة مثلت أستراليا ودخلت حينها إلى بينالي فينيسيا بتشكيل القمامة.. الفعل الفني الذي صنع عبقريتها الفنية مُنتجا فنا حقيقيا معنيا بالهدف وبتعميق بحثها في اللون وفي اللغة وفي عاطفة الاندماج بالطبيعة الحقيقية المتغيرة والآخذة في إحباطنا أكثر وأكثر في تطورها ناحية العمران والمدنية.. هذا يحدث إلى اليوم بأشكال عدة.. وأنواع تختلف في مستوياتها وطرق تنفيذها التي في مجملها تقدم فنا هو من الغنى والبراعة وينم عن فن خلاق وإنسانية رفيعة.. حيث الكل يستخدم البيئة ذاتها في التقاط المواد «المدينة» إلا أن المخرجات تختلف كليا.. إنما الهدف الإنساني واحد.
نجد هذا عند النظر إلى أعمال الفنانين السويسريين «جيردا ستاينر وجي ارجي ليزلنجر» حيث يجمعان الكثير والكثير من القمامة وأنواع الأسمدة ثم يعيدون تشكيلها في تجهيزات ضخمة كحدائق معلقة هي غاية في الجمال المبهر والأخاذ الذي من الصعب جدا تخمين مصدره.. في عملهم الحديقة الساقطة يجعلوننا ندرك من خلال الفن المسافة بين القبح أيا كانت كثافة مصدره ومدى ما يمكن أن يصل إليه التدخل الإنساني في صناعة الجمال الأخاذ ومدى نجاح هذا الفعل التعويضي الذي يرتكب الرقي عامدا لتحقيق شيء من التوازن في هذا العالم.. أيضا نظرة إلى أعمال الفنانة الشابة «أورورا روبسن».. نجد كم تختلف النتيجة النهائية للعمل لا في المخرجات فقط وإنما أيضا في رحلة التنفيذ حيث تستعمل الفنانة في كل عمل ما لا يقل عن 50 ألف علبة بلاستيكية معادة التدوير.. علب مياه, عصير, صودا.. إلخ. والمميز في أعمال أورورا هو تقبلها لمشاركة تجربة التحويل هذه مع أكبر عدد ممكن من الناس.. الأمر الذي نراه وفي جمالية إنسانية موحية يتكرر بوصفه حدثا اجتماعيا جماعيا وفعاليات فنية احتفالية ضمن تطبيقات المجموعات العالمية المحافظة والمهتمة بالبيئة.. وذلك في إطار محاولاتهم الدائمة لتكوين أعمال فنية جمالية من العنصر الأكثر فتكا بهذا الكوكب والأكثر توفرا فيه.. محققين بذلك أهدافهم البيئية بأجمل الطرق الإبداعية الممكنة. من أجمل التطبيقات الفنية في هذا الإطار وأكثرها احترافية يتجلى مركز الفن المعاصر في أستراليا بوصفه صرحا فنيا بناء؛ حيث يمنح فرصا هائلة ليتبنى الفنانون من كل أنحاء العالم جهودا وبحوثا خاصة بالبيئة مبتكرين أعمالا في إطارها كأعمالهم لجذب المطر إلى أستراليا لكسر الجفاف.. ودراسة الطرق المؤدية إلى هذه اللامبالاة بالطبيعة الأم. في ظل الأبعاد الاجتماعية التطويرية والتوعوية الناتجة عن تسليط الضوء على حضارية الفن الجديد.. أتساءل عن مدى إمكانية إنشاء مجموعة فنية بيئية لدينا في المملكة حيث الوعي بخطر البيئة يتفاقم ليصلنا مرغمين والتناغم مع الحصيلة الفنية المعاصرة لا يزال في النماء لحسن الحظ .. لنكون محبين للطبيعة وللفن في آن واحد.