لمّا غضب البحر لملم موجه ورحل به ليترك الشاطئ عارياً، والغيم لمّا بكى أفرغ ما به وذهبت به الريح بعيداً لتحترق الأرض بالشمس فلا تجد ما يحجب عنها هجيرها، ويا ويل قلوبنا إنْ بكت فقد رحل رجل الشعر وأضربت الحياة عن الحياة والربيع عن الحضور، فمن يعيد للقلب نبضه وللسَّطر بهجة الحبر وغناء الحرف؟
رحل الرجل الاستثناء.. رغم مرضه الذي سبق رحيله، إلاّ أننا لم نكن لنصدق أو نتخيّل أننا يمكن أن نفقده، نسينا خوفنا بأمل خاننا تحقيقه وبحلم غشي على أعيننا وبصبر فرّ من بين أصابعنا كأنه الوهم.
كيف السبيل إلى الحياة بلا حياة؟ خذلتنا السبعون فرحلت به.. والقصائد فلم تشفع بعودته والذكرى التي نلوكها كوجع يومي.. غربت الشمس باكراً فكيف لنا أن نتهجّى حرفه.. ونسافر معه إلى المدن التي سكنت أوراقه كما كان سكن أرضها.
رجل جاء ولكنه لم يذهب لأنه ترك كلّ أشيائه لدينا.. ألف حكاية حب تركها في حياتنا سواء من عرفه أو من لم يره يوماً إلاّ على شاشات التلفاز أو على أغلفة كتبه.
كتبه كنوزنا المختارة.. حكاياه.. صوته الذي كان يأتي بما في أعماقه..
غازي القصيبي شاعرٌ حاك روحَهُ من تراب يثربَ على مهَلٍ وتُؤدَة.. استجمع خيوطَ فطرته من بداوةٍ ممزوجةٍٍ بالدم، نقّت لغَتَه وغربلت رؤيتَه، لتُصفيها كرمالٍ بكر في صحراءَ عذبةٍ لم تعكّرها لغاتٌ مهجّنة ولا رياحٌ مطعمةٌ بأخرى تهب من جها تٍ مضادة...
شاعرٌ.. خبأ في دفاتره كلماتٍ استعارَها من قلبِه حيناً أو كتابٍ اعتاد أن يرافقَه في سفره، أو من حلمٍ بالغياب.. ثم جاء الغياب الذي رحل به عن أعيننا رغم أنه سيبقى عميقاً في الذاكرة وفي تفاصيل الحياة التي كان جزءاً كبيراً منها.
رحلت يا غازي ولم ترحل.. ولن أبكيك لأقنع نفسي بحضورك..
سلام عليك.. قبلات الهفوف إليك.. أشواقنا وذكريات المدن التي مررت بها يوماً.. الأصدقاء الذين عهدت وبحرين المحبة تمد جسرها لتعانق شقيقتها المملكة ثم ليعانقها قصيدك الذي أنشدت يوماً.. سلام عليك.
للقصيبي
في الخريف..
يسقطُ الحزنُ من الأشجارِ كالأوراقِ
تذروه الرياحُ
فهو في كلِّ مكان..
في الشتاءْ..
يسكنُ الحزنُ الغيومْ
ويزورُ الأرضَ زخّاتِ مطرْ..
في الربيع..
ينبتُ الحزنُ من التربةِ أعشاباً
وشوكا وورودا
ومع الصيفْ..
يسيلُ الحزن في كل الوجوهْ
فهو حباتُ عرقْ
maysoonabubaker@yahoo.com