انطلقت معرفتي بغازي القصيبي الإنسان إبان تسلُّمه حقيبة المياه في أوائل العام 2003م، وعايشته عن قرب بشكل يومي لمدة ليست بالقصيرة، عرفت من خلالها ما لم يعرفه إلاّ القلّة ممن كتب الله لهم ملازمة هذه الأسطورة. وشاهدت وشهدت على تواضع الرجل وحكمته ورهافة حسِّه وشاعريته ودبلوماسيته في التعامل مع الآخر، يستمع باستمتاع وينصت بحكمة ويردُّ بدهاء، ويحسن قراءة الوجوه والملامح وتعبيراتها، ويتعامل معها بشكل يجبرك على احترامه واحترام وجهة نظره، لا ينهر صغيراً ولا يحقر كبيراً مهما بلغ حجم الخطأ، يصانع مع الجميع ولا يظهر تعبه أو إرهاقه بعد جهد العمل، وقضاء الساعات الطوال في المكتب بوزارته أو في مقر إقامته، مواعيده دقيقه والتزاماته يصاحبها وفاء الرجال.
حادثته يوماً أثناء تجاذبنا أحاديث عامة عن رغبتي في أن أتشرّف بأن يكتب لي مقدمة رسالة الدكتوراه والتي كنت قد انتهيت من مناقشتها للتو، فبارك لي ذلك النجاح ووعدني بأن يفعل، ثم سألني عن مجال الدراسة والبحث وقد أبلغته فوراً وبحماس أنها في مجال السعودة، تخيّلوا في مجال السعودة ذلك المجال الذي تولّى معاليه - رحمه الله - همه وتحقيقه لاحقاً، فما كان منه إلاّ أن اعتذر بأدب جم عن أنّ ذلك لا يقع من قريب أو من بعيد في مجال اختصاصه، فلا هو في المجال العلمي الذي درسه، ولا هو في مجال أدبي يستطيع أن يربط بينه وبين كتابته لمقدمته، بل كان في مجال ارتأى - رحمه الله - أنه ليس من اللائق أن يكتب مقدمة رسالة دكتوراه في موضوع يقع في مجال زميل له، وكان يقصد - رحمه الله - وزير العمل آنذاك. تقبّلت اعتذاره بسرور واحترام تقديراً لموقفه - رحمه الله -.
ثم كان لي وقفه أخرى معه - رحمه الله - عندما كنا نحتسي القهوة معاً فسألته بشكل مفاجئ ومباشر - وكان وقتها لم يتم تحديد بعد حد أدنى لأجر العامل السعودي، بل كانت النقاشات تدور حول ذلك الموضوع في أواسط صنّاع القرار - سألته لماذا لا يتم تحديد حد أدنى لأجر العامل الأجنبي، فانبهر أسكنه فسيح جنانه، وطلب تبريراً لمطلبي ذلك وشرحاً لذلك المقترح، وراح يسمع بتأنٍّ واستمتاع وهو ما عهدناه عنه - رحمه الله - الأمر الذي يجعل كل من يقترب منه يستأنس للحديث معه، فهو المستمع الإيجابي الممتاز الذي لا يُظهر نوعاً من التذمُّر حيال ما يسمع، حتى لو كان فيما يسمع نوع من السلبية أو الخروج عن المألوف.
وكان لي شرف لقائه - رحمه الله - في أكثر من مناسبة أخرى، لعلّ أهمها لقائي معه في مكتبه وهو وزير للعمل، وتحدثنا عن التأشيرات والسعودة وهمومها، وقد أدار الحديث - رحمه الله - بشكل مبهر، وأظهر حرصه الكبير على القضاء على البطالة بجميع أشكالها، وقلقه من القادم من الأيام، وكيف ينوي أن يضع أسساً لعملية التوطين الوظيفي بحيث لا تأخذ بحسابها العاطلين عن العمل في ذلك الوقت فحسب بل في قادم الأيام، وكان حديثة في وسط النهار وبرغم من مشاغله المتعددة، إلاّ أنّ الحديث لم يخل من الطرفة حيناً ومن الأدب حيناً آخر، ومن حديث الذكريات في أحيان أخرى، حتى أنني ابتعدت قليلاً عن ما يتحدث به، وبدأت أفكر كيف أن غازي القصيبي وبرغم مشاغله المتعددة وأداوره الكثيرة، كان رجلاً لا تمل سماع منظومته الأيدلوجية من آراء وتوجهات، رجل يقوم بتوظيف خبرته الطويلة في ما كلف به من عمل، رجل يحمل رؤية من أجمل ما سمعت وشهدت، رؤية فيها من التجرُّد والبعد عن النرجسية الشيء الكثير، إنه يؤمن بالتأسيس والزرع ولا ينتظر حصاداً يسجل باسمه. يؤمن برؤية مفادها أنّ على المسؤول أن يؤسس ويزرع ولا ينتظر حصاداً فلربما أتى الحصاد في عهد مسؤول يأتي بعده. أوليس ذلك قمة في التجرُّد من الذات وأنانيتها ونرجسيتها؟ أوليس في ذلك حس المسؤولية الوطنية؟
غازي القصيبي - رحمه الله - كان شخصية مثيرة للجدل على كافة الأصعدة، فهو الرجل الشاعر ذو المواقف المتعددة، وتقلّده لعدد من الوزارات ونجاحاته الكثيرة التي طغت على بعض الإخفاقات البسيطة وصراحته المباشرة، جميع ذلك لا شك مبعث على الإثارة والحديث حوله في المجالس وغيرها. ذلك الحديث الذي كان يتمحور حول رؤى الرجل في المهمة الأخيرة التي أوكلت إليه وهي وزارة العمل، وما تبع ذلك من قرارات أصدرها بتوطين الوظائف في بعض المجالات الهامة، إلى جانب اهتمامه بخصوصية الفتاة السعودية حينما طالب بتأنيث محال بيع الملابس النسائية، حرصاً كما ذكرت على خصوصية الفتاة من جهة ولإيجاد فرص وظيفية لكثير من العاطلات عن العمل بالمملكة، وقبل ذلك أقرّ توطين وظيفة معيّنة لمساعدة شباب الوطن على العمل والرزق الحلال، ما أثار ذلك ولا يزال جدلاً واسعاً في الشارع السعودي.
الدكتور غازي القصيبي - رحمه الله رحمة واسعة - وظّف رؤياه الأساسية في خدمة رؤاه الفرعية، وحمل الأمانة كما حمل غيرها سابقاً دون تردد، واستشعر عظم المسؤولية وتلمّس حاجات البلد وتوقّع المستقبل واستشرفه وراح يطرق أبواباً مختلفة بغية تحقيق نتائج مُرضية في المهمة التي أوكلت إليه.
كتبت أكثر من مقال عنه وعن وزارته، بل لعلّ أكثر ما كتبت كان يتناول وزارة العمل والطريقة التي تدار بها، ربما لأنها تقع في صميم تخصصي، وأعترف أنّ بعض مقالاتي كانت قاسية في النقد، إلاّ أنّ الرجل - رحمه الله - لم يرد أن نتوقف أنا وغيري من الكتابة عن النقد البنّاء، بل لعله كان يعتمد عليه في قياس أداء الوزارة، لأنه من القلّة الذين يعترفون بالخطأ ومن النادرين الذين يبادرون لتصحيح الخطأ دون خوف أو وجل أو خجل.
إنه غازي القصيبي الإنسان الذي أراد الله سبحانه وتعالي أن يكتب له الرحيل، إنه غازي القصيبي الفارس الذي ترجَّل أخيراً بعد أن أمضى زهرة شبابه في خدمة بلاده في مواقع عدّة. رحمك الله رحمة واسعة وأسكنك فسيح جنانه إنه سميع مجيب .. إلى لقاء قادم إنْ كتب الله.