الموت واقع معلوم ومحتوم لكنه لا يخطر بذهن الإنسان إلا بعد سماعه بوفاة عزيز لديه قريب أو صديق، وهو الحدث المجهول الذي لا نفكر فيه إلا بعد أن يطوى أجل قريب لنا أو صديق محبوب لدينا، وهو حقيقة ملموسه ويمثل واقعاً محسوساً نتجاهله أو نتغافل عن تذكره حتى إذا صدمنا في مشاعرنا بوفاة هذا الصديق العزيز، فزعنا إلى مراجعة أنفسنا كأننا كنا في غفلة تامة عن واقع الحياة ومسارها.
|
صدمت بوفاة صديقنا الرائع خلقاً وأدباً وعلماً، الدكتور غازي بن عبدالرحمن القصيبي، لقد هزني الحدث المحزن من أعماقي، وانداحت في ذهني صورة هذا الصديق المتألق واحتشدت في عيني الدموع، وأصبت باكتئاب شديد وحزن عميق انعكس على مظهري وسلوكي، فقد كان النبأ فاجعاً لي ولكثيرين ممن يعرفون الراحل النبيل، فقد كانت الآمال معلقة على شفائه، فإذا بالأمل يتلاشى، وتصدمنا الحقيقة المؤلمة والفاجعة المرة بوفاة فارسنا غازي تغمده الله بواسع رحمته ولا نملك سوى الدعاء له بالرحمة والمغفرة والرضوان.
|
إن وفاته خسارة كبيرة لا تعوض في عالم الفكر والشعر والأدب وفي كل ميدان من ميادين الحياة، فلقد كان مواطناً مخلصاً، ومثقفاً مبدعاً، وإنساناً رائعاً، وهو متفوق في جميع جوانبه الإنسانية، وله مواقف مشهودة ومرموقة في حياته الثرية بالفكر والأدب، والثقافة المتنوعة باللغتين العربية والإنجليزية.
|
تلقيت الخبر الصاعق وأنا أكاد أنهي كتابه (الوزير المرافق) الذي أبدع في تصوير مرافقته لكبار ضيوف الدولة، وتجسيد المواقف التي مرت به أو مر بها، وقد كتب عن كل فرد منهم بإنصاف وحلل شخصية كل رئيس دولة دون مجاملة ولا تحامل، فكان منصفاً في تحليله لهذه الشخصيات التي كتب عنها.. لقد كانت الفاجعة بوفاته صاعقة، فهو رجل محبوب من جميع الطبقات الاجتماعية، وله مشاركات إنسانية ومواقف نبيلة لا يعلن عنها ولا يسمح بنشرها، فهو يعملها بتلقائية ذاتية، واستجابة طبيعية لعاطفة نبيلة، وكان ذلك منهجاً له على مدار حياته العلمية والعملية، فقد خدم وطنه في مجالات شتى في جامعة الرياض وفيما سواها من المجالات الحيوية، كما تألق في مناصبه الوزارية والسفارات التي مثل بلاده من خلالها، وكان الرجل النزيه جداً المترفع عن استغلال نفوذه الواسع ومناصبه العالية والمتعددة فلا يشار إليه بعلامة استفهام ولا يهمس نحوه بخاطرة اتهام، ذلك أنه يمثل الرجل النقي السريرة، النظيف اليد، الصادق الوعد، الوفي لولي الأمر المخلص فيما يكلف به من عمل وما يعهد إليه من مسئولية، لقد كان صادقاً في وفائه، ومخلصاً في عطائه ومتألقاً في إبداعه الشعري والنثري، فهو الشاعر المرموق والكاتب القدير والروائي المتميز، وقد جمع مواهب عديدة، قلما تجتمع في فرد. {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}.
|
وقد ترك وراءه ذكرى عطرة وسيرة رائعة كما ترك في نفوس ذويه وأحبابه وأصدقائه حسرة على فراقه وانتهاء أجله وهو لا يزال في مراحل العطاء، ولذا فالأسى على رحيله سيمتد مع امتداد الأيام والمتأمل في شعره يشعر كأنما يتنبأ برحيله عند بلوغه السبعين من عمره، كما يجسد هذه الرؤيه في قصيدته التي بعنوان: (سيدتي السبعون) التي يقول فيها:
|
ماذا تريد من السبعين يا رجل |
لا أنت أنت ولا أيامك الأول |
جاءتك حاسرة الأنياب كالحة |
كأنما هي وجه سله الأجل |
أواه سيدتي السبعون معذرة |
إذا التقينا ولم يعصف بي الجذل |
قد كنت أحسب أن الدرب منقطع |
وأنني قبل لقيانا سأرتحل |
وعلاقتي بالراحل الكريم قديمة متجددة، وكانت تعليقاته هادفة ومحببة إلى النفس، من ذلك أنه رحمه الله كان يمازحني عندما كنت أكتب تحت اسم مسلم بن عبدالله المسلم فتجيء تحيته لي: سلام عليك أيها المسلم، وعندما بعثت إليه نسخة من كتابي (ذكريات مما وعته الذاكرة) مشفوعة برسالة أخويه مني أرجو له من خلالها أن يمن الله عليه بالشفاء العاجل، وأن يحقق الله اللقاء به وهو معافى، أجابني برسالة منه علق في نهايتها بخطه الجميل وأسلوبه الرشيق بعض عبارات تترجم عواطفه الأخوية وتعبر عن روحه الطيبة تغمده الله بواسع رحمته وتقبل الله الدعوات التي رفعها محبوه وهم كثيرون إلى الله تبارك وتعالى ليشمله برضوانه.
|
|