بالأمس أفأجا وأنا أتصفح بريدي قبيل المغرب بخبر عاجل مفاده (وفاة الدكتور غازي القصيبي في المستشفى التخصصي بالرياض) كنت أعلم أنه في المستشفى متأخراً واتصلت قبل نحو أربعة أيام من وفاته أسال عن إمكان زيارته فأحالوني إلى التشريفات الذين بدورهم أفادوا أن زيارته مقصورة على أسرته فقط، ويمكن زيارتهم في جناحهم المعد لهم في المستشفى.
كنت أتمنى أن أراه ولو من وراء حجاب، كنت أتمنى أكثر لو استطعت أن أدخل عليه وأقبل جبينه وأتلو عليه:
ستقال فيك قصائدُ ماثورة... فالعاشقون الوالهون تأهبوا!
نعم، ستقال فيه قصائد مأثورة من عشاق شعره ومحبيه ستبقى أبداً ناطقة بحبه والحزن على فراقه، مشيدة بعظمته ونبله وندرة معدنه ووطنيته وشجاعته في الحق وإخلاصه المنقطع النظير، وتفانيه في خدمة الوطن كأنموذج رائع قل أن يتكرر!! كان في كل وزارة تقلدها وبخاصة الصحة والكهرباء مثلا رائعا للوزير المخلص الواعي المتفهم لما يدور في وزارته، والمتنفذ فيها بطريقة علمية وعملية نادرة، وليس مجرد (نفش الريش) على الكرسي الدوار واستغلال المنصب للأغراض الشخصية المختلفة!!
كانت الصحة مزدهرة جداً على أيامه، فلا تلاعب ولا عبث ولا استغلال لأموال الوزارة أو مخازن أدويتها، ولا (مفطحات) داخل غرف المرضى، ولا مدير يترك مكتبه في نصف الدوام أو يأتي إليه بعد العاشرة صباحا، كان يتنكر ويقف في طوابير المراجعين ويدون بنفسه كل الملاحظات، ويحاسب المقصر في وقته ومن مكتبه أيضاً!! لقد أصبح كل صغير وكبير في وزارة الصحة يحسب أن ظله هو غازي القصيبي, فانضبطت الأمور انضباطاً يشهد به القاصي والداني، وهكذا فعل في الكهرباء فطاف أرجاء البلاد وساهم بكل ما أوتي من إمكانات في إيصال الكهرباء إلى مناطق نائية لم تكن لتصلها بعد عقود!! ولقد حظي بشعبية كبيرة جداً جعلته الرجل الأشهر إطلاقا على مستوى الوزارات المدنية كلها!!
رحل شاعر الأفلاك، رحل أبو يارا وسهيل وفارس ونجاد، وذكرت يارا أولاً لأنه اشتهر بها قبل سهيل وكانت وظلت تحظى بمحبته وفخره، وتحتل مساحة من شعره، وقد قدمها أيضا في إهدائه لكتابه الشهير (حياة في الإدارة) الذي سيأتي ذكره!
قبل نحو سنتين تفضلت صديقة لي أديبة وفنانة تشكيلية مغمورة وابنة أديب وأكاديمي كبير بإهدائي كتابه القيم الرائع (حياة في الإدارة) مع نسخة أخرى من (للشهداء)، لم أستطع التوقف عن قراءته حتى أتيت عليه بالكامل في عشية وضحاها، كنت أقرأ وأنا أعجب عجباً شديداً من هذا الفكر النير، وهذا النبوغ الفذ وهذه الأريجية في هذا الرجل.
كنت أقرأ علماً وأدباً واقتصاداً وفلسفة وإدارة عامة، وعلمت فقط من هذا الكتاب: لماذا كان القصيبي ناجحاً متمكناً منطلقاً أبداً حاصداً النجاح تلو النجاح والعلو تلو العلو، وقد كتبت له (رسالة) بالمعنى الأدبي للرسالة، وإن كانت مختصرة كثيراً، وكنت أنوي أن أضعها بين يديه في مكتبه في وزارة العمل، لكني فقدتها نتيجة خطأ كبير أودى برسالتي إلى غياهب الجب، أثناء (فرمتة) حاسوبي الشخصي، وقد حسبتني حفظتها في قرص آخر!! ندمت كثيراً ولم تفلح كل محاولاتي لاستعادتها!! لم يُكتب لها أن تعانق أحرفها عيني ذلك الباسق العظيم!!
رحل شاعر الأفلاك جسدا ولكنه سيبقى أبداً في قلوبنا، وسيبقى شعره يجول فوق شفاهنا ويسيل منها عذوبة ورقة!
سيبقى غازي شاعر الأفلاك وشاعر الحماسة أيضا، وشاعر الغزل الرقيق الصافي المبهر. قال في قصيدة عذبة له بيتا عذبا رائعا أصبح مثلا يلوذ به الشعراء والأدباء وصناع الكلام أيضا عندما تتوشحهم بعض الأحيان صدق النوايا وأمانة البوح!
لا تغرينكِ أبياتٌ أنمقها... فإن زخرفة الأشعار من حيلي!
سبحان الله.. كنت أراسل أستاذة أديبة معروفة، وقد كتبت لها شعراً أمتدحها فيه كثيراً وأثنى على أدبياتها وأعمالها، ولكني أيضاً في رسالة عادية كتبت لها هذا البيت السابق لكي لا تظن أني أعني كل ما أقول من كلام منمق قد يذهب بها بعيدا!! كان هذا قبل أيام فقط!
إيه يا أبا يارا.. قبيل السحور ليلة البارحة الاثنين كنت أذكرك، وأقول في نفسي: هذه الليلة الأولى لك في قبرك، وترحمت عليك وسألت الله أن يغفر لك، وأن يلهم أهلك خاصة الصبر والسلوان، سأبقى أحبك وأدعو لك و(أتنبرس) بك، وأحاول قدر المستطاع أن أحذو حذوك في إنسانيتك وتواضعك وتنميق أشعارك وزخرفتها، فقد حبَّبت إلي الشعر منذ (الحمى) وأخواتها الشهيرات قبل أكثر من ثلاثة عقود خلت.!!
لقد كنت مذ ذاك وأنت تحس بالرعشة تعتريك والموت يسري في وتينك, كما قلت في (الحمى)!! وها هو الموت بالأمس يسري فعلاً وصدقاً وحقاً في وتينك ويُسكت نبض قلبك إلى الأبد، لكن نبض أحرفك لن يتوقف لعقود وعقود!
- الرياض