مضى غير مذموم وأصبح ذكره |
حلي القوافي بين راث ومادح |
البعض من الناس إذا شعر بدنو أجله ونزوحه عن الدنيا الفانية إلى عالم البقاء دار المقام، فإنه يحاول أن يترك شيئاً ما..
|
فإن كان ذا مال رغب وجدّ في بذل شطر منه لمن حوله من أقارب ومساكين، أو عمل بعض المشاريع الخيرية كبناء مساجد ودور علم ومساكن أخرى يصرف ريعها على ما يوصي به في أوجه البر والإحسان، ولرعاية الأيتام والأرامل (مثلاً) ليبقى أجر ذلك زاداً له ليوم الحساب والمناقشات.. والبعض الآخر من البشر يودع أحبابه ومعارفه بقصيدة أو بديوان شعر يترنم به من بعده من الأجيال داعين له بطيب الإقامة في مرقده إلى أن يأذن الله لجميع الخلائق بالنهوض من مراقدهم ليوم الحساب؛ وقد رثى نفسه الكثير من القدماء قبل موتهم ورحيلهم أمثال مالك بن الريب بقصيدته المشهورة والشاعر الإبيوردي بثلاثة أبيات مؤثرة، وحديثا الأستاذ الراحل عبدالعزيز الرفاعي بقصيدة طويلة، والزميل الفاضل الدكتور صالح بن عبدالله المالك (أبوهشام) نظم له ديواناً وهو على السرير الأبيض قبل رحيله عن أسرته وأحبابه ( رحم الله) الجميع.
|
ففي يوم الأحد 5-9-1431هـ فجعنا برحيل علم بارز من رجال الدولة الذي له مكانة عالية في المجتمع السعودي والعربي عموماً، إنه ابن الوطن المخلص الدكتور غازي بن عبدالرحمن القصيبي (أبو سهيل) بعد طول معاناة مع المرض الذي أعي مهرة الأطباء، فأجله مقدره علام الغيوب قبل طلوعه على نور شمس الدنيا، قال سبحانه وتعالى: {فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} (61) سورة النحل.. ولقد حرص أبو سهيل قبل رحيله وهو يكابد المرض أن يفرغ بعض ما يجول بخاطره من لوعات الفراق الأبدي، والتحسر على بعده عن أحبابه ومعارفه، وقد ترك ثلاثة دواوين حديثه وهو على سرير الموت لتبقى ذكرى خالدة له بعدما يتوارى عن الوجود، مع ما تركه من أعمال جليلة يحفظها له التأريخ، ولقد تسنم عدداً من المناصب الحكومية العالية ورأس الكثير من المؤسسات والجمعيات وساسها بحكمة ودراية، ونال إعجاب الدولة -أعزها الله- فعيّن وزيراً للصناعة والكهرباء خلال الفترة 1975-1982م وقد تطورت الكهرباء بشكل سريع بتشجيع ودعم سخي من الدولة -وفقها الله-.. والشاهد على ذلك زراعة سهول وآكام وجبال وطننا الحبيب إلى قلوبنا بآلاف الأبراج وأعمدة الكهرباء العملاقة التي غطت مساحات شاسعة.
|
ثم عيّن وزيراً للصحة خلال 1982-1984م فاشتهر بالإخلاص والنشاط المستمر في ظل حكومتنا الجليلة التي أعطته كامل الصلاحيات في تطوير المصحات على مستوى المملكة مدناً وأريافاً، وقد جمع -رحمه الله- بين قوة الشخصية والهيبة لدى موظفي وزارته، فهو يقوم بجولات تفقدية وبزيارات مفاجئة في أي وقت يشاء، وخاصة في أواخر الليل أو بعد صلاة الفجر مثلاً، فيذكر في أول الليل بجدة ثم يفاجئ أطباء القصيم ببريدة فجراً أو بوادي الدواسر في منتصف الليل، وهكذا يكون الحزم والإخلاص منه -رحمه الله- ولذا ترى جميع المصحات على أتم اليقظة والنشاط المستمر والترقب.
|
كأن بلاد الله وهي عريضة |
على الخائف المذعور كفة حابل |
فقرار إلغاء عقد المهمل فوراً ولا هوادة فيه، ولذا مشت الأمور على ما يرام، ومن ضمن أعماله الجليلة أن قام بافتتاح الكثير من المستشفيات في أنحاء البلاد، كما قام بافتتاح مستشفى حريملاء العام في حفل بهيج بمقره بالحي الجديد في مبانٍ مستأجرة أو متبرع بها ثم صرح باعتماد مبنى المستشفى الجديد بسعة مائة سرير، وها هو الآن قائم كأحد الصروح بالمحافظة، وبعد الانتهاء من الحفل وتناول طعام الغداء اتجه إلى الحي القديم بالبلد ليلقي نظرة على منزل آبائه وأجداده، وقد أثّرت فيه عوامل التعرية وتهدمت بعض شرفاته وأركانه فوقف هنيهة متأملاً مومئًا بمقدمة رأسه متذكراً من أقاموا فيه ردحاً من الزمن من أجداده، ثم هجروه إلى حيث صاروا.. ففاضت عيناه بدموع وكأنه يردد في خاطره قول أبي الطيب المتنبي:
|
تتخلف الآثار عن أصحابها |
حيناً ويدركها الفناء فتتبع |
ثم انصرف وبخاطره ما به من تأثر وتذكر.. فعمله في كلتا الوزارتين الكهرباء والصحة -خاصة - وسائر أعماله المشرفة محفوظة في ذاكرة أبناء الشعب السعودي مدى الأيام، كما أن له أعمالاً جليلة يشكر عليها، فأثناء عمله سفيراً في بريطانيا، وسفيراً في البحرين ظل هناك يكافح ويقارع خصومه ضد بلادنا وينافح عن وطنه عبر وسائل الإعلام والصحف الغربية وفي بعض المحافل الدولية والعالمية لإعطاء الرأي العام صورة واضحة مشرفة عن المملكة العربية السعودية، لأنها دولة معتدلة محبة للسلام وأنها مهبط الوحي وتدعو إلى التحابب والتآلف بين شعوب الأرض، فهو رجل محنك لطيف ومحبوب لدى الكثير داخلياً وخارجياً، كما أن له باعاً طويلاً في الأدب والثقافة والشعر الرصين المؤثر، وله قلم طيع أنامله يمج ما توحي به خواطره ووجدانه ليمتع قراءه عبر الصحف وبكتبه كثيرة العدد الذي عز عليهم بعده وغيابه.. وآخر عمله وزيراً للعمل، ومما يعرف عنه -يرحمه الله- حبه للبذل في أوجه البر والإحسان، ويقال إنه يحول معظم راتبه لجمعيات الأيتام ودور الرعاية للمحتاجين، وكما أنه أول من أسس الجمعية السعودية لرعاية الأطفال المعاقين عام 1980م.. فأعماله المشرفة يصعب حصرها وعدّها -يرحمه الله-؛ ولئن توارت تلك القامة العالية عن نواظر أحبابه فإن ذكره الجميل لا يبرح خواطرهم.. مختتما هذه العجالة بقول بن دريد:
|
وإنما المرء حديث بعده |
فكن حديثاً حسناً لمن وعى |
تغمده الله بواسع رحمته وألهم ذويه وأسرته وأبناءه، وابنته يارا، وزوجته، وإخوانه، ومحبيه الصبر والسلوان.. {إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}.
|
|