رحل عنا السياسي الشاعر، والإداري الأديب، والقانوني المثقف معالي الدكتور غازي القصيبي، الذي مزج الدبلوماسية بأبيات الشعر، والإدارة بروايات الأدب، فأبدع حيثما كان، وخدم وطنه، وحمّل قلبه الرقيق مالا يحتمل، فعاش وزيرا نزيها قويا، وصارع في جميع الاتجاهات من أجل رفعة الوطن وعزته وتنميته، ولا شيء غير ذلك. تنقل بين وزارات الدولة فكان الوزير النزيه القوي الأمين، نحسبه كذلك والله حسيبه، أثبت قدرة فائقة في الشؤون الإدارية، السياسية، والقانونية، مدعمة بكاريزما خاصة قل أن تجدها بين الوزراء؛ كان مبدعا بكل ما تعنيه الكلمة، وتجاوز إبداعه العمل السياسي، الإداري، والقانوني إلى الجوانب الفكرية، والأدبية.
|
ومثلما تدخلت قصائده في رسم بعض محطات حياته المهمة، أراد أن يجعل لها حضورا في وفاته التي سبقها بقصيدة رثى فيها نفسه، ونشرتها «الجزيرة» فكانت قصيدة الوداع التي أبكت كل من قرأها وتمعن في أبياتها النقية الجميلة. ما أجمل أبياتها، وأعذب كلماتها، وما أصدق ما جاء فيها من بوح غلفه بعذوبة الشعر وبلاغة الأدباء، وطهارة القلب.
|
«ويا بلاداً نذرت العمر زَهرتَه
|
لعزّها!. دُمتِ!. إني حان إبحاري»..
|
أبحر مودعا محبيه، وتاركا خلفه إرثا إدارايا، سياسيا، وأدبيا قلما اجتمع لأحد من قبله.
|
ناضل وقاتل من أجل الوطن، أبدع في مقالاته التي نشرها في حربه ضد الغزو العراقي للكويت، ومؤيديه، فكانت كطلقات الرصاص القاتلة التي اخترقت صدور أعداء الأمة، حتى خشي الملك عبدالله بن عبدالعزيز (ولي العهد آن ذاك) من أن ترتد عليه من أعداء الحقيقة، وسافكي دماء الشرفاء، فأمر باتخاذ إجراءات حماية خاصة غير مسبوقة للسفير المناضل من أجل وطنه، ودول الخليج؛ « أجل نحن الحجاز ونحن نجد .. هنا مجدٌ لنا وهناك مجد « بمثل هذه الكلمات الصادقة، وبمقالاته النارية واجه العدو فشكل لوحده، رحمه الله، مجموعة قنوات موجهة لخدمة الوطن. انتقلت مقالاته الصارمة إلى الصحافة البريطانية العريقة حين أبدع في مواجهة بعض الإعلاميين، والبرلمانيين المتطاولين على المملكة من خلال مواجهات صحفية مفتوحة قلما تحدث في بلاط الدبلوماسية، أرغمت كبريات الصحف على فرد مساحات لردود السفير السياسي المحنك.
|
إلا أن نضاله الأكبر كان في مواجهة بعض رجال المال والأعمال الذين انقلبوا عليه بين ليلة وضحاها. كان مصرا على تحقيق المعادلة الأصعب، السعودة واستمرار التنمية، فأسس قواعد وزارة العمل لتحقيق تلك المعادلة التي مضى دون أن يهنأ بتحقيقها. نزل إلى ساحات العمل، وخالط السعوديين في أعمالهم الحرفية التي دفعهم نحوها، فظهر الوزير النادل، والوزير الميكانيكي، والوزير بائع التجزئة. لم تمنعه الوزارة وبريقها، ومكانته الرسمية، والاجتماعية من تقديم الوجبات لطالبيها في المطاعم. كان مصرا على محاربة النظرة الدونية لبعض المهن، فأراد أن يكون القدوة، فتخلص من العباءة (البشت) وانضم إلى مجموعات الشباب العامل في المتاجر والمطاعم والورش.
|
مواجهة رجال المال والأعمال قابلتها مواجهة أخرى مع محرمي عمل المرأة الذين استعدوا الرأي العام ضده لمجرد أنه أراد أن يؤنث وظائف محلات بيع المستلزمات النسائية، الملابس الداخلية على وجه الخصوص، فاتهموه بما ليس فيه، ونسجوا حوله قصص التحرر المزعوم. حتى في قصائده يمكن ملاحظة تأثره الكبير ببهتان المتشددين الذي طال علاقته مع الله. ليتهم عرفوه بحق، وليتهم قرأوا أبياته المفعمة بالإيمان والتدين الخالص الذي لا تشوبه المراءاة، ولا تنقضه الضغينة التي ملأت قلوب البعض عليه.
|
لم تكن مواجهاته انتصارا لنفسه، بل للوطن الذي استوزره فحمل وزر الوزارة، ووزر الآخرين. رحم الله الدكتور غازي القصيبي، وأسكنه فسيح جناته، فقد كان رجل بألف رجل. حباه الله بمواهب فكرية، أدبية، سياسية وقدرات كبيرة، ونزاهة وحب للوطن وتفاني في خدمته، ما جعله مستحقا لوصف الديوان الملكي له بأنه (أحد أهم رجالات الدولة الذين خدموا دينهم ومليكهم وبلادهم). نعزي القيادة، والوطن، وأسرته، ومحبيه جميعا، ونسأل الله أن يتغمده بواسع رحمته وأن يسكنه فسيح جناته وأن يجعله من عتقائه في هذا الشهر الفضيل.
|
من قصيدته العذبة «حديقة الغروب»:
|
يا عالم الغيبِ! ذنبي أنتَ تعرفُه |
وأنت تعلمُ إعلاني.. وإسراري |
وأنتَ أدرى بإيمانٍ مننتَ به |
علي.. ما خدشته كل أوزاري |
أحببتُ لقياكَ.. حسن الظن يشفع لي |
أيرتُجَى العفو إلاّ عند غفَّارِ؟ |
F.ALBUAINAIN@HOTMAIL.COM |
|