يغيب عنّا، دون أن يودعنا، أو يستأذن منا، أو يفكر بدموعنا وحزننا على غيابه، أو بما ستتركه وفاته من رنة حزن في أعماقنا، هكذا تعامل غازي القصيبي مع اللحظات الأخيرة التي سبقت آخر نبض لقلبه، وآخر كلمة نطق بها لسانه، فواحزناه على هذا الصمت في وداع وتوديع الكبار من الرجال.
***
يغيب القصيبي بهدوء عن الناس بعد أن قطع كل وسائل الاتصال بمجتمعه ومحبيه على مدى عام كامل، وتفرغ لمقاومة هذا المرض الصعب الذي استوطن جسمه وأبى أن يستجيب لمحاولات الأطباء للقضاء عليه، فكانت ساعات وأيام وشهور ملبدة بالدموع ومجللة بأحزان الرجال والنساء على حد سواء تأثراً على ما آلت إليه حالته الصحية.
***
غازي القصيبي، هذا الفقيد الأغلى، مارس دوره كمواطن وكمسؤول، وبقي صديقاً وفياً لمواهبه وثقافاته، لا يتنازل عن مبادئه، ولا يساوم على قناعاته، ثابتاً على مواقفه دون أن يسمح لنفسه بالتراجع عنها، ضمن منظومة من الالتزامات الجميلة التي طوع نفسه وعوّدها عليها.
***
وفي فاجعة موته، سيبقى الناس فترات طويلة في ذهول من هذا الغياب، ولن يفيقوا من الصدمة ومن الفراغ الكبير الذي تركه إلا بعد أن يأخذ الحزن والدموع والآهات مجراها وحقها في إشباع النفوس بكل أدوات التعبير والتصوير عن هذا الفقد الكبير الذي اسمه غازي القصيبي.
***
لكن لا ينبغي أن يصرفنا هذا الحزن والدموع عن البحث الجاد في التعرف على ما لا نعرفه بعد عن هذه الشخصية المبهرة، وذلك بأن نعيد قراءة كتبه وإيجاد وسيلة لقراءتها بشكل مختلف وأفضل من قراءتنا لها إبان حياته، وأن نفتش عن أعمال أخرى كثيرة ومهمة ربما فاجأ المرض ثم الموت الدكتور القصيبي دون أن يدفع بها إلى المطابع لنشرها، فهذا هو الوجه الآخر - الأهم - من الدموع التي ينبغي ألا تتوقف حين نفاجأ بوفاة أحد من الرموز إلا بعد أن تنجح المحاولات في العثور على ما تركه من إرث ثقافي هائل.
***
وبقي أن أقول: ويلنا من تأنيب الضمير، لأننا لم نكرم الراحل الكبير في حياته كما كان يجب، فقد كان ذا عطاءات متنوعة ومواقف مشهودة ومبادرات غير مسبوقة، وكلها مع غيرها لم نتعامل معها كما تستحق، وآن لنا الآن - ولو بعد رحيله - أن نحتفي بكل الومضات المشرقة التي تمثلها مجموعة من عناصر التميّز التي كان يتمتع بها وبينها صدقه ونزاهته وجديته وإخلاصه وهذه في الوظيفة، ومثلها في أدبه وثقافته وشعره ومقالاته ورواياته وقصصه وجميع أبحاثه ودراساته.
***
ويا أبا سهيل، نم مطمئناً وواثقاً بأن مجتمعاً كنت أحد رموزه لن يخذلك، ولن تتخلى عنك قيادة أعطتك في حياتك ثقتها ومنحتك الفرصة تلو الأخرى لتخدم الوطن والأمة بامتياز، ووقفت معك تدعم وتساند أفكاراً تبنيتها ووجهات نظر عبرت عنها وقرارات أعلنت عن أهميتها لتسهيل نجاح ما اؤتمنت عليه من أعمال، فسوف تجد من التكريم بعد وفاتك ما لم تجده حين كنت حياً بيننا.
***
رحم الله الدكتور غازي القصيبي، فقد علّمنا أن الحياة رحلة ممتعة بالعمل والإخلاص والإنتاج، وأنها تعطي الأهمية والاعتبار لمن يستحقها من الرجال والنساء على النحو الذي يجمع الناس على أنه غير معتد أو متعد على حقوق الآخرين فيها، والحياة أولاً وأخيراً - وباختصار - هي بعض هذا، وإلا فإن الأعمال الجليلة في حياة الناس أكثر من ذلك بكثير.
لك منا الدعاء الصادق أيها الفقيد الغالي بأن يرحمك الله ويغفر لك ويسكنك فسيح جنانه، ويلهم أبناءك وابنتك وزوجك وأفراد أسرتك الصبر والسلوان.