ما من شك أن العمل بالوصايا من أهم ما يحتاج إليه بنو البشر..، فمنها ما هو مخصوص وموصى بالعمل بها وبتنفيذها شرعا، وهذا الأمر ملزم على المستوى الفردي، ومن الوصايا ما هو عام يحث على الاستفادة منها وهو محبب غير ملزم بتنفيذها وسيأتي الحديث عنها، فالوصية الشرعية هي التي يوصي الإنسان المسلم بتنفيذها والعمل بمضمونها باستمرار، فتكون بمنزلة الصدقة الجارية توظف لمستحقيها حسب لفظ الموصي..، وغالبا ما تحرر تلك الوصايا عندما يهم الإنسان بالحج أو بسفر نائي المحل فيودعها عند ثقة حتى يعود إن قدر له الإياب والسلامة:
|
وكل مسافر سيئوب يوما |
إذا رزق السلامة والإيابا |
وهذا يدل على امتثال قول رسول الهدى محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى قوة إيمان الموصي، وكأني به أثناء كتابة الوصية أو إملائها يتصور دنو أجله، وأنه سيرحل تاركا وراءه أثمن ما يملك، وأغلى ما يحب من والدين وزوجة وذرية، ورفاق عمر، بل ومقتنياته القريبة إلى قلبه، مثل الكتب النفيسة وبعض المقتنيات النادرة..، فالآجال مغطاة ومخفية في ضمير الغيب، لا يعلم وقوعها إلا رب العباد، ولا يعلم ما الله صانع فيه، كما أن الله قد أمر وأوصى في كتابه الكريم بالعدل في كل شيء، وفي قسمة المواريث والتركات وحفظ حقوق المرأة فيه، وسائر الورثة بالنص الواضح..، وبالسنة المحمدية المطهرة التي فسرت وفصلت حق كل وارث وعاصب، قال الله سبحانه وتعالى في سورة النساء {يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} (11) سورة النساء فيحسن بالمسلم أن يبادر بكتابة وصيته ولا يتجاوز الثلث والثلث كثير..، وفي معنى الحديث (لأن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تتركهم عالة يتكففون الناس). والكثير من الناس لا يعي ولا يعير الاهتمام بتدوين وصيته إذا داهمته بعض الأمراض أو بدت عليه علامات الهرم أو هم بدخول أحد المصحات فيحسن أن يتوقع رحيله عن هذا الوجود إلى الدار الباقية، معتبراً ما أوصى به زاد من التقوى يصحبه بعد غروب شمسه عن الدنيا..، وكأنه بعمله هذا يقاسم الورثة في ماله الخاص الذي كان يرعاه كاملاً وينميه جاهداً، فهو ولسان حالهم بمنزلة الشريك يدققون الحساب معه ولا يسمحون بتنحية ولا بفرز شيء من ماله أكثر من الثلث، ولقد نصح الشاعر من أفاء الله عليه بوافر من المال أن يستفيد منه في حياته ما دامت كفه طرية ورطبة، وقلمه مطيعا لقبضة أنامله ليسخو به ويبذله في وجه البر والإحسان، ويمنح المستحقين من الأرحام والأقربين، وهو في كامل قواه الفكرية:
|
وإذا رزقت من النوافل ثروة |
فامنح عشيرتك الأقارب فضلها |
|
نصيبك مما تجمع الدهر كله |
رداءان تلوى فيهما وحنوط |
فأخلق بالإنسان المسلم أن يحتاط لنفسه مبكراً باقتطاع جزء من خالص ماله ليبقى صدقة جارية بعد رحيله من الدنيا إلى دار المقام، وقبل أن يقع نهباً بأيدي الوراث، وقد لا يحمدونه..!
|
خذ من تراثك ما استطعت فإنما |
شركاؤك الأيام والوراث |
فالمدخر ليوم الحساب هو الذي ينفع صاحبه قال الله سبحانه في محكم كتابه العزيز: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} (158) سورة الأنعام.
|
وفي الحديث الشريف: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث، صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له) رواه مسلم.
|
فأما الشق الثاني من الوصايا فهو عام لمن أراد أن يستفيد منه ويوسع مداركه وينير فكره من الحكم الصائبة، والأمثال الهادفة لأنها تروي غلة الصادي وتربي ملكة التعبير الجيد لدى الإنسان وتحلي الترسل في الحديث لتلذ الأسماع له..، وتوقظ ما كسل من الخلايا الذهنية ليلصق ما عذب من تلك الوصايا والأمثال بجدران الذاكرة، فتسريح النظر في بطون كتب الحكم والأمثال والآداب عامة تثري حصيلة المرء، وتزيد في مخزون ذاكرته لينتفع بها في مسيرة حياته وينفح غيره من أريجها ومن حلو رضابها ولتبقى رصيداً جميلاً يقتات منها عندما يحتاج إليها في المناسبات الجميلة وفي المحافل وعلو المنابر الأدبية والخطابية عموماً..، ولقد أجاد أبو حاتم السجستاني في جمع مصنفاته من درر الحكم والوصايا، بل وعن أحوال المعمرين وإيراد نماذج من جيد أشعارهم في كتابه المسمى (المعمرون والوصايا) الذي طبع عام 1961م ويعتبر هذا الكتاب من أجمل الكتب وأنفسها وأنقاها لخلوه من الموضوعات والعبارات المستهجنة وغير المألوفة، كما أن كتاب (عين الأدب والسياسة وزين الحسب والرئاسة) لأبي الحسن ابن هذيل لا يقل عنه جودة ونقاءً، ويحسن بالأديب وطالب العلم أن لا تخلو رفوف مكتبه منهما، ويلحق بهما كتاب (قول على قول) المشتمل على اثني عشر مجلدا للأستاذ حسن سعيد الكرمي وقد سبق أن أذيعت محتوياته عبر إذاعة لندن منذ سنوات بصوت رخيم لمؤلفة حسن الكرمي..، والحقيقة أن تلك الكتب الثلاثة تعتبر من أنفس الكتب الأدبية والشعرية، فالكتب ودواوين الشعر الدسمة يجد القارئ فيها متعاً يأنس بها، وتطرد عنه هموم الحياة وتضيء السعادة بين جوانحه، ولله درء الشاعر في وصف إحدى المكتبات الحافلة بما عذب وجاد معناه حيث يقول:
|
هذي رياض يروق العقل مخبرها |
هي الشفاء لنفوس الخلق إن دنفت |
ويحسن بنا أن نعطر ونختتم مقالنا هذا ببعض النماذج والحكم والوصايا التي اصطادها أبو حاتم السجستاني فأودعها في مخلاته ((كتاب المعمرون والوصايا)) ليأنس بها وينتفع منها من بعده من الأجيال المتتابعة على ظهر المعمورة على مر الملوين منها هذا النص: قالوا: وجمع الحارث ابن كعب بنيه حين حضرته الوفاه فقال: (يا بني عليكم بهذا المال فاطلبوه أجمل الطلب، ثم اصرفوه في أجمل مذهب، فصلوا به الأرحام، واصنعوا منه الأقوام، واجعلوه جنة لأعراضكم تحسن في الناس قالتكم (1)، فإن بذله تمام الشرف وثبات المروءة، وإنه ليسود غير السيد، ويؤيد غير الأيد (2) حتى يكون عند الناس نبيلاً نبيهاً، وفي أعينهم مهيبا.... الخ انتهى النص) صفحة 122 وأوصى رجل من أهل الشام بنيه فقال: (يا بني، أظهروا اليأس مما عند الناس فإنه غنى، وإياكم وطلب الحاجات فإنه فقر حاضر، وإياكم مما يعتذر منه من القول والفعل، وإذا صليت يا بني فأسبغ الوضوء وصل صلاة مودع يرى أنه لن يثوب إلى أهله، فإن استطعت أن تكون اليوم خيرا منك أمس وغدا خيرا منك اليوم فافعل) وذلك الكتاب يحوي بين دفتيه الكثير من الوصايا النافعة التي صدرت عن أهل الخبرة والتجربة والله الهادي إلى الصواب.
|
|
|
|