كلمات الشكر وعبارات الثناء التي تستحقها الدولة لاهتمامها بالتعليم كثيرة ومتعددة، في ظل ما بذلته من جهود خلال فترة قصيرة من الزمن لتنشر الخدمات التعليمية إلى مختلف ربوع الوطن، فأصبحت المدارس بالمملكة تحسب بالآلاف والطلاب بالملايين، ثم اتجهت الجهود لنوعية التعليم تحاول الرفع منها وتسعى نحو تحسينها لتلبي حاجات مجتمعنا، وهي جهود مشكورة تحاول وتحاول ونتمنى لها التوفيق في مساعيها.
وإنْ كانت هذه كلمة حق نبدأ بها موضوعنا حتى لا يُفهم منه غير ما هو مقصود، فإنّ الجهود مهما تعدّدت وتنوّعت أو اشتدت وتكثّفت، فلا يزال تعليمنا في حاجة للمزيد والمزيد في ظل الدعم السخي الذي تبذله الدولة - أعزّها الله -، وفي ظل ما يتطلّع إليه أبناء المملكة إلى أن يروا تعليماً يقف بهم بين دول العالم المتقدم، لتتبوأ بلادهم مكانتها اللائقة بها بين البلدان.
لقد خطر ذلك في مخيلتي وأنا أطالع في صحافتنا خبراً يفيد أنّ معالي نائب وزير التربية والتعليم، قد أصدر قراراً بتشكيل لجنة لدراسة ظاهرة تسرب المعلمين من الوزارة، وأن تضع هذا اللجنة الضوابط المناسبة للحد من هذه الظاهرة، وتستعين بالمتخصصين من داخل الوزارة وخارجها لإنجاز مهمتها، وعرض ما تتوصل إليه للنظر في اعتماده بما يحقق المصلحة التربوية والتعليمية.
ولا غرابة في دراسة الظواهر التي تطرأ على مجتمعنا وبخاصة في مجال التربية والتعليم، ولكن الغرابة في موضوع هذه الظاهرة التي يبدو أنها أصبحت تؤرق الوزارة حتى لم تجد حلاً لها إلاّ في تشكيل لجنة لدراستها، ووجه الغرابة في ذلك توضحه ثلاثة أسباب مهمة، إذا اعتبرنا أننا قد وصلنا فعلاً إلى وجود ظاهرة بمعناها المتعارف عليه، ولعل هذا هو ما حفز وزارة التربية والتعليم إلى الاهتمام بتسرب المعلمين منها، بعد أن أصبح ذلك يمثل ظاهرة لديها، وتدارك خطورة هذه الظاهرة وتداعياتها.
وأول الأسباب في غرابة هذه الظاهرة أننا كنا نسمع في الماضي عن تسرب الطلاب، فكيف تحوّل الموقف في الوزارة إلى تسرب المعلمين؟ لقد وضعت الوزارة العديد من الحلول، وبذلت الكثير من الجهود لتحسين واقع التعليم، مما انعكس أثره إيجاباً على الإقبال على التعليم والحرص عليه، فما الذي دفع بالمعلمين الآن للتسرب، وتحوّل الوضع من الطالب إلى المعلم، إنّ هذا هو سبب من أسباب الغرابة التي تحيط بهذه الظاهرة.
ولعلّ ثاني هذه الأمور يتعلّق بما كانت عليه وزارة التربية والتعليم خلال فترة طويلة حيث ظلّت وزارة جاذبة يسعى الموظفون إلى الانتساب إليها والحصول على وظيفة فيها، وجميعنا يذكر تلك الفترة التي كانت تعاني فيها الوزارة من قلّة المواطنين، فإذا بها تضرب المثل في سعودة الوظائف بعد أن وفّرت الدولة للمعلمين سلّماً وظيفياً محفزاً ساهم في جذب المواطنين للمشاركة في تعليم أبناء الوطن، فماذا حدث لتتحوّل الوزارة من حالة الجذب إلى حالة أصبحت معها تدرس تسرب المعلمين منها بل وتعد ذلك ظاهرة تحسب لها حساباتها في جهودها وتفكيرها وفي وقت لجانها ودراساتها.
ووجه الغرابة الثالث يمثله واقع التوظيف في مجتمعنا الذي يعاني من قوائم انتظار طويلة يفقد من يدخل في نطاقها الأمل في الحصول على وظيفة، وكثر عدد الخريجين والخريجات الذين يعانون من البطالة، بل سمعنا عمن هم مؤهّلون للعمل بالتدريس ولم يتمكنوا من ذلك، وقرأنا عن شكاوى من وعُدوا بالالتحاق في سلك التدريس بعد تخرجهم ولكن لم تتحقق لهم الوعود، ألا يجعلنا ذلك نرحب بإيجاد أماكن لهم ووظائف مناسبة حين يتركها لهم غيرهم؟ أم أنّ مَنْ يخرجون أو يتسربون من وزارة التربية والتعليم، من المعلمين الذين لا يمكن تعويضهم، وهذا يتطلّب إعادة النظر من قِبل الوزارة في سلوكها تجاه المعلم، فتسأل المتسربين أنفسهم لِمَ غادروها، وتستعين بآراء زملائهم فلعل عندهم السر الدفين.
لقد مرِّ على وزارة التربية والتعليم فترة من الزمن كانت تعاني منها من قلة أعداد المعلمين المتخصصين، فكانت تلجأ للتعاقد لسد حاجتها، وقد عاصرت هذه الفترة حين تشرفي بالعمل في الوزارة، ووقفت مع زملائي المسؤولين فيها على المعاناة الحقيقية كل عام لسد احتياجات المدارس وكليات المعلمين آنذاك، ولكن اليوم ندرك جميعاً داخل هذه الوزارة وخارجها أنّ العرض صار أكبر من الطلب، وأنّ الخريجين من الشباب المتحفز للعمل، والممتلئ حماسة للوظيفة والمحب لمهنة التعليم، والقادر على العطاء فيه من الكثرة والحيوية بحيث لا يتسبب خروج عدد من المعلمين في إزعاج، كما أنّ الكثيرين من المعيّنين على البند يتشوّقون إلى اليوم الذي يتم تعيينهم فيه لتحقيق الأمان الوظيفي المطلوب لهم وتحسين مستويات دخولهم.ألا يمثل ذلك انفراجاً يقلِّل من حجم ما أُطلق عليه ظاهرة تسرب المعلمين ويحدُّ من خطورتها، إلاّ إذا كانت وزارة التربية والتعليم لديها من الأسباب والمخاوف ما دفعها إلى دراسة الظاهرة قبل أن تستفحل أضرارها، وهذا هو ما نتطلّع إلى أن تكشف عنه دراسة اللجنة المشكّلة لهذا الغرض، ونتمنى لها التوفيق في عملها والنجاح في تحقيق مهامها.
والله من وراء القصد،،
وكيل الوزارة بوزارة الثقافة والإعلام - سابقاً