كثيرة هي العبارات التي مرت على مسامعي وأنا طالب جامعي في مصر في ثمانينات القرن الماضي، وما علق في ذاكرتي منها ليس بالقليل، ولكن تعبير (بالحب وحده) يظل من أكثر التعبيرات تأثيراً في وجداني، لأنني أدركت فيما بعد بأن الكثير مما نعانيه في مجتمعاتنا يعود بشكل أو بآخر إلى غياب الحب.
وحين تسألني عن سر ذلك تعود بي الأيام في بدايات عهد النبوة، فقد كان حب الناس للنبي محمد صلى الله عليه وسلم عاملاً أصيلاً من عوامل الإيمان به وبرسالته، فقد أمّنوه فحفظ الأمانة وأداها فأحبوه، وحدّثوه فما وجدوا منه ولا سمعوا عنه إلا الصدق فأحبوه، ولقّبوه بالصادق الأمين، ثم إن صفحة أخرى من صفحات الإسلام الناصعة تجلّت حينما ربط المهاجرون بالأنصار وهي تنبئ عن حب لا مثيل له، حين دفع الحب في الله الأنصار لاقتسام الطعام والمال والمنازل مع المهاجرين حباً لله، وحباً في الله لعباده الصالحين.
وظل المجتمع الإسلامي قائماً على الحب في الله، فحصد من ذلك القوة والمنعة والتعاطف والتعاون إلى أن أدرك أعداء المسلمين - ولست من أنصار نظرية المؤامرة - بأن نزْع هذا الحب من القلوب، وغرْس بذور الضغائن والأحقاد هو السبيل الأمثل لتفكيك هذه الأمة وذهاب ريحها، فراحوا يبذرون بذور الشقاق، ويشجعون على المعصية والنفاق، وشعارهم (فرّق تسُد)، ولا نقول ذلك من قبيل التهرب من المسؤولية أو التنصل من التبعات، وإنما هو وصف للواقع فحسب، فقد غاب الحب، وتوارى التعاطف والتآخي أو كاد، وراحت مراكز الدراسات - وأغلبها تصنف إستراتيجية - تدرس وتحلِّل، وتخرص وتخمن في أسباب ومسببات ضعف حال الأمة، ونصّبت من يسمون بالخبراء الإستراتيجيين ليقوموا بمحاولة وضع الحلول والخطط والتصورات التي تحقق الحلول السحرية لمشاكل الأمة، وتقف حاجزاً وسداً منيعاً في وجه الطامعين بها وبخيراتها، وهذه المراكز هي التي تُنعت بالقومية والثورية والتقدمية والنضالية... وتنافسها من جهة أخرى تلك المراكز التي أجادت فن التلبيس والتدليس، فراحت وبدافع الشفقة على الأمة والرغبة في انتشالها من التخلف - الذي يعيشه أهل الشرق - والانتقال بها إلى فضاء الحرية والديمقراطية والاستقلال وحقوق الإنسان وحقوق الحيوان وحقوق (النسوان) كما يحلو للغرب أن يعزف بمناسبة أو بدون مناسبة راحت تدس السم في العسل.
لقد غاب عن كلا الفريقين من أتباع تلك المراكز أن الحب الضائع كما أطلق عليه طه حسين، والحب المفقود كما أطلقت عليه بعض المسلسلات العربية البغيضة هو سر هذا التهالك والضعف والهوان، وأين نحن من حب أضحى لا يُذكر إلا تكلّفاً ولا يُرى إلا تزلّفاً، في البيت بين الأزواج وفي العمل بين رب العمل وأتباعه المطحونين، وفي الدوائر الحكومية والمؤسسات الأهلية، بين الرئيس والمدير وبين أتباعه من الأميين الذين ليس عليه فيهم من سبيل، وفي الشارع بين من يعتبرونه ملكاً خالصاً وبين الآخرين الذين عليهم أن يؤدوا التحية فقط، وهذا كله مكلف ومزعج ومقيت، بينما كلمة تتكون من حرفين كفيلة إن وجدت بصدق وقيلت بحق خالصة لوجه الله كفيلة بإصلاح ما أفسد الزمن وليتك ممن يؤمنون بأن التجربة خير برهان؛ إنها كلمة حب، وإنه (بالحب وحده) يمكن أن تغير نظرتك للحياة، كفانا تباغضاً وهماً وفرقة (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه).