* كتاب (تقدُّم العلم) لم أره مترجماً، ولكن قرأت عن بعض مواده أكثر من ترجمة في الدراسات الفلسفية، وصرَّح فيه بأن مادته مما حوته ذاكرته، ولم يكن على خُلُق كريم؛ فكان رئيس غرفة التعذيب في البلاط الملكي، وكان مرتشياً، وكان مرافعاً فذاً في سبيل إعدام صديقه (الأيرأوف أيسكيس) لقاء مبلغ من المال !.. وهو بخلاف إمام الفلسفة الحديثة رينيه ديكارت (1596 - 1650م)؛ فكان إماماً في التأمل والنظر، مجدداً في الفلسفة، عاملاً جاداً لا يُقَصِّر في أداء فروض دينه المسيحي، ولكنه مع هذا غير نظيف العرض، يغامر ويجاهر، وهذا نوع من الجنون.. وإن أولو العلم هؤلاء غير سويين، وكنت في حيويَّة الشباب معجباً بمذهبه في أَوَّلية الضرورات الفطرية (الأفكار الخالصة)؛ لما فيها من نصر لبرهان وجود الله بصفات الكمال، ولما فيها من الموافقة للإمام ابن حزم رحمه الله تعالى، ثم تبيَّن لي بعد التمكُّن في العلم والنظر أن برهانه صحيح، ودعوى الأفكار الفطرية الخالصة القبلية دعوى غير صحيحة عند ابن حزم وديكارت معاً، لأن الله أخرجنا من بطون أمهاتنا لا نعلم شيئاً، ولأن ضروراتنا الفكرية تتدرَّج في الحافظة من قوى العقل بمقدار ما نَعي من هُوِيات الأشياء وعلاقاتها وفروقها؛ وإنما الفطرة الأولية ملكات العقل تصوراً وتمييزاً وحكماً وحفظاً واستذكاراً.. ومثل ديكارت عبقري الأدباء والكتاب فولتير (1694 - 1778م) كان لا يبدأ الكتابة إلا عندما يضع أمامه مجموعة من أقلام الرصاص لا تقل عن اثني عشر قلماً، وبعد أن ينتهي من الكتابة يُكِّسرها ويلفها في الورقة التي كان يكتب عليها ويضعها تحت وسادته عندما ينام، وإمام الرومانسية، وفتيل الثورة الفرنسية جان جاك روسو (1712 - 1778م) كان يخشى البرق والرعد؛ لأنه يظن أن كل شيئ في الوجود منافس له، وكان لا يأكل إلا الطعام الذي يجهزه بنفسه - وقريب من ذلك الموسيقار محمد عبدالوهاب -، وكانت ليلاه التي جن بها بادلته الحب ووجهت أدبه (دواورين)؛ فإذا به يتزوج خادمة أمية تُدْعى تيريز لوفاسور، وإذا به يُدخل أولاده الخمسة بملجإ اللقطاء.. ومحرر الأمريكيين جورج واشنطن (1732 - 1779م) الجنرال السياسي القدير كان يرتبك أمام الغرباء لشدة خجله، ولخجله الشديد كان شديد الكبرياء، وأحد الدهاة السياسيين (تاليران) صديق نابليون ووزير خارجيته كان قسيساً داهية حليماً سريع البديهة ذا أخلاق فاضلة في أمور كثيرة، ومع هذا كان مرتشياً، وتزوج على الرغم من أنه قسيس، وذلك مُحَرَّم عندهم، وكان زواجه من عاهرة وهو يعلم، وقد دبَّر المؤامرات ضد صديقه نابليون وكان كأبي براقش يتكيف مع الأوضاع، وأعظم عبقرية عسكرية نابليون بونابارت (1769 - 1821م) لم يكن يشرع في رسم أي خطة حربية إلا وهو يمتص أقراص السوس، وكان خطه رديئاً يظنه الناس خرائط حربية، وأحد مؤسسي الاشتراكية العلمية روبرت أوين (1771 - 1858م) تحول من قائد للعمال له صداه واحترامه إلى أسقف لطائفة صغيرة، وعلَّل برتراند رسل ذلك بأن طموحه أكبر من حجمه وأكثر من عمره، وشاعر الإنجليز بايرون (1778 - 1824م) كان شعره ظاهرة جنونية مردُّها إلى عقد ورثها عن سير الأدباء، ويطول بي عرض هذه العقد، والشاعر شيللي (1792 - 1822م) كانت حياته كلها نوماً وقراءة، كان يأكل وينسى أنه أكل، ويغلبه النعاس في النهار فينام في أي مكان كالطفل.. ذكر صديقه تريلوني أنه ترك شيللي في الساعة العاشرة صباحاً وكان واقفاً بجوار مدفأة غرفة مكتبه يقرأ، ثم عاد إليه في الساعة السادسة من مساء اليوم نفسه فوجده على حالته ذا شحوب وإعياء، وبلزاك هو نورادي (1799 - 1850م) الكاتب القاص الفرنسي المشهور لم يكن أقرباؤه وأصدقاؤه يعرفون له مقراً ثابتاً، وكان يسكن بيتاً ثم يستبدل به آخر بعد أيام أو ساعات، وكان ضعيف الذاكرة لا يعرف اسم اليوم أو الشهر أو العام الذي هو فيه، وَوِرْث جورج صاند في مذكراتها نصَّت على أنه متغطرس لا يترك الحديث عن نفسه، وكان يسير في الشوارع، ويسجل أرقام البيوت، ثم يجمع الأرقام، فإذا كان المجموع مضاعفات الرقم 3 سار في طريقه ضاحكاً مستبشراً (وفيه شبه بابن الرومي)، ووالد بلزاك مكث طريح الفراش عشرين عاماً دون داع، ثم قام واستأنف حياته اليومية دون داع، وفيلسوف ألمانيا الشهير شوبنهاور (1788 - 1860م) كان يحادث نفسه في الطريق بصوت جهوري، وكثيراً ما كان يسجن نفسه في غرفته عدة أشهر، ووقفت والدته على باب غرفته يومين فلم يأذن لها بالدخول.. والروائي والقاص الشهير الكسندر دوماس (1804 - 1870م) كان زير نساء على الرغم من بدانته ودمامته، وبلغ أولاده خمس مئة، وكان كثيراً ما كان ينسى مواعيد طعامه؛ لانهماكه في الكتابة.. ويكتب رواياته على ورق أزرق بأقلام خاصة، ويكتب قصائده على ورق أصفر بأقلام خاصة، ويكتب مقالاته الصحفية على الورق الوردي، وكان يكتب على ركبته ولم يستعمل المنضدة قط (والكتب على الركب عادة ورثها العربي عن أسلافه قبل استعمال المناضد والكراسي، وطالما كتبتُ على ركبتي).. والفيزيائي الأمريكي مخترع آلات الكهرباء وغيرها أديسون (1847 - 1931م) أخفق في دراسته، وقرَّر أساتذته بأنه أبله ضعيف العقل، وتكهن الأطباء بجنونه نظراً لشكل رأسه الغريب، وبعد نبوغه كان ينسى اسمه وينسى أنه أكل.. والمصور الهولندي القدير فان جوخ (1853 - 1890م): قالوا: إن هلوسته من نوع الرقة المفرطة والغضب الشديد.. والكاتب الروسي الروائي الشهير تولستوي أخفق في دراسته، وعجز مدرسوه الخصوصيون عن إدخال أي علم في جمجمته الكثيفة، ثم نبغ بعد ثلاثين سنة (لعله كالنابغة الذبياني)، وكان مترفهاً في أول حياته، وفي آخر حياته ارتدى ثياب الفلاحين الخشنة، وصنع أحذيته بيده.. والقاص الإنجليزي الشهير تشارلس ديكنز (1803 - 1880م) كان يغادر منزله وسط الظلام، ويتيه في شوارع لندن كالمجنون قاطعاً 15 ميلاً أو 20 ميلاً دون مأرب، وربما دخل بيوت أصدقائه من نوافذها مرتدياً ملابس البحارة، والكاتب الروائي الروسي الشهير (دوستو يفسكي) (1821 - 1881م) كان أخرق التصرف في ماله.. هرب من روسيا أربعة أعوام لكثرة دائنيه، وكان يفكر دائماً في قطع صلته بمعارفه، وقد قطع إحدى أذني صديقه بول غونان في نوبة من نوباته.. وقد مات فان جوخ منتحراً، والفيلسوف الإنجليزي هربرت سبنسر (1820 - 1903م) كان يقضي معظم وقته في الأماني والأخيلة (أحلام اليقظة)، وكان يحادث نفسه في الطريق بصوت جهوري.. وأحد المخترعين في مسائل الطب العالم باستير (1821 - 1895م) لم يحضر ليلة زفافه؛ لأنه منكب في أنابيب الاختبار في مختبره.. والفيلسوف الألماني نيتشه (1844 - 1900م) كان منطوياً على نفسه مات مجنوناً، واستمر جنونه ما يقرب من اثنتي عشرة سنة.. وواضع النظرية النسبية الخاصة آينشتاين (1879 - 1955م) كان مُنَظَّم التفكير إلا أنه فوضوي في بيته وشؤون حياته.. كان يصفِّر ويغني بأعلى صوته في الحمام *أصبح ذلك عادة خواجية*، والشاعر الروائي الأيرلندي أوسكار وايلد (1854 - 1900م) كان ذا شذوذ جنسي، وكان غريب الأطوار، ومثله بتراندرسل.. وزعيم إيطاليا موسوليني (1883 - 1905م) كان ساحراً مجنوناً يحب الإطراء، وزعيم الألمان هتلر (1879 - 1945م) حلَّل العقاد عبقريته وجنونه في كتاب خاص، والروائي الفرنسي الكاتب المسرحي هنري دي مونترلان مات منتحراً لا لشيئ إلا أن الرواية تُقرُّ الانتحار.. والكاتب الروائي إميل زولا يزعم أنه إذا اختلى بنفسه ليلاً رأى أضواء غريبة تبرق وتنطق حوله، وسمع أصواتاً هامسة تُدِّوي في أذنيه، وكانت تلازمه هواية إحصاء مصابيح الغاز على جوانب الطرق والأبواب المعلقة خلف العربة، وكان إذا دخل بيتاً وقدم رجله اليمنى ناسياً خرج مسرعاً وعاد ليقدم اليسرى تشاؤماً من اليمنى، وكان إذا أراد قفل بابه يفتحه ويقفله عدداً من المرات قبل أن يتركه مقفولاً.. والشاعر جيراردي نرفال صرف ميراثه وعاش فقيراً معدماً.. قضى حياته في بوهيمية، وبعد عودته إلى باريس من مصر ولبنان بدأت ظاهرات الجنون في تصرفاته وفي النهاية شنق نفسه.. والأديبة الناقدة الكاتبة البريطانية فرجينا وولف في 28 من شهر أذار سنة 1941م خرجت من بيتها وأغرقت نفسها في نهر بلندن.. قيل: إنها جنت.. وقيل: إنها نتيجة رؤيا مزعجة.. والروائي العالمي همنغواي أنفق حياة بوهيمية، وأطلق على نفسه رصاصة قتلته سنة 1961م.. والشاعر هولدرلن استخفَّ غوته بشعره وسخر منه؛ فصُدِم وجن جنوناً عظيماً وانتحر وهو مجنون، وتحت وطأة الجنون كتب أعظم أعماله الخالدة.. والرسام الشهير وبلاك وُضع بمستشفى الأمراض العقلية، فاعتقد أنه يعيش مع شخصيات تاريخية فُقدت في عهد سحيق !!.. والشاعر الروسي مايا كوفسكي انتحر في موسكو سنة 1920م، والأديب الياباني القاص ياسواري كابانا انتحر؛ لأنه لم ينجز أعماله الأدبية؛ فهو صاحب أكبر إنتاج غير متكامل.. والمفكر الفرنسي مونترلان انتحر متأثراً بنصائح نيتشه.. هذه نماذج لعباقرة مجانين، أو مجانين عباقرة من الغربيين من استقراء غيري، ومن استقرائي أيضاً، وقد تركت آخرين من أمثال جورج صاند ودارون وشومان وبدلير ولوكريسي وأوجست كونت.. بل قيل: (إن المصابين بالانفصام من الكتّاب والرسامين الثلثان)، والكلام ههنا عن العبقرية والجنون معاً تطوير لوريقات نشرتها قديماً في أحد كتبي، وقد يُفترض أن في هذا السرد الذي أسلفته مبالغة، ولكنني لا أملك البرهان على ذلك؛ وإنما أجزم بأن بعض هذه الظواهر ليس من الجنون وإنما هو غفلة وسهو، والقاعدة أن من أكبَّ على علمٍ تخصُّصٍ أو أكثر يكون ذا سذاجة فطرية وغفلة في الأمور الأخرى.. ولظواهر الجنون تلك شاع عند المعاصرين: (فلان مصاب بداء العباقرة)، ولكن العبقري المسلم العابد قلَّما يصاب بالجنون، وأولئك لِقِلَّةِ إيمانهم وعبادتهم الصحيحة صاحبتهم الشياطين عبقريةً وجنوناً معاً، ودفع الجنونُ بعضهم إلى الانتحار.. وتركت عباقرة لم يكونوا مجانين، وإنما أُدخلوا مستشفيات الأمراض العقلية ظلماً وعدواناً.. من أولئك أيزرا باوند روَّج اليهود أنه مجنون لعدائه لهم، والدكتور علي عبدالسلام المصري أرسل كتاباً لرئيس الحكومة مصطفى النحاس وآخر للنقراشي وزير المعارف يطالب الدولة بأن تستفيد منه؛ فتصرف عليه لينال دراسة عالية، وتحمس؛ فأدخلوه مستشفى المجاذيب عشر سنوات، وقد نشر بالمصور مذكراته عالم المجانين، وفي مذكراته نوَّه بزملاء له في مستشفى المجانين كانوا شعراء ورسامين وأدباء وفلاسفة.. وذكر جون جنتر في كتابه (داخل أمريكا اللاتينية) - نقلت عنه بالواسطة - أن حكومة إحدى دول أمريكا الجنوبية انتهزت فرصة إحدى المعارك الانتخابية البرلمانية فاعتقلت زعيم المعارضة هناك بحجة أنه مجنون، وبقي في المستشفى بضعة أيام إلا أن حصانته البرلمانية، وجهود أهله وأنصاره أحبطت المؤامرة، وقد عرفته المنابر خطيباً مفوَّهاً.. والدكتور محمود علي النفراوي أحد العرب المخترعين من مصر نشرت مجلة الاثنين مأساة اتهامه بالجنون، وإليكم هذا النموذج من عباقرة مَن هم دون الجنون في المشرق العربي مثل حجي بن موسى الشافعي (توفي سنة 782هـ) كان آية في كثرة الاطلاع وصحة النقل، وكان غوَّاصاً نقالاً عارفاً بحل المشكلات صحيح الفهم سريع الإدراك.. قال ابن حجر رحمه الله: كان ساذَجاً من أحوال الدنيا، لا يعرف صحة عشرة من عشرين، ولا يحسن براية قلم، ولا تكوير عمامة.. وعبدالواحد بن علي بن برهان أبو القاسم النحوي (توفي سنة 456هـ) وكان شرس الأخلاق جداً، لم يلبس سراويل قط، ولا غطَّى رأسه قط كما قال ابن كثير.. وأبو العباس ابن البناء أحمد بن محمد الأزدي العدوي له تأليفات حسان، ثم استحوذ عليه الشيطان ووسوس له أنه من أصحاب المكاشفة إلى ما يقرب من الوحي.. وأحمد بن عبدالله بن هاشم الفقيه الشافعي أبو العباس الملثَّم ادعى أنه رأى الله في المنام، وأنه أسري به إلى السماوات السبع، وصرح بأنه المهدي المنتظر، وادّعى النبوة، ثم لطَّف الوضع قليلاً فقال: أنا رسولُ رسولِ الله.. وأحمد ابن إبراهيم الحنبلي نجم الدين المقدسي انحرف مزاجه فكان يقف في الطرقات وينشد أشياء مفيدة، ويتكلم بجد وهزل، وربما ثاب إليه عقله فعاد إلى طبيعته.. ونجم الدين أبو بكر بن محمد بن خلكان كان يهذي ويصرخ بأنه خليفة الزمان، وأنه ستكون له دولة، وأنه يوحى إليه.. وأبو عبدالله محمد بن عبدالله الجزيري الظاهري ارتكب حماقات من جنون الفكر والخيال حتى قتل، وخَيَّل للعامة أنه يتصور في صورة قط أو كلب.. قال ابن حجر: (وكانت العامة ترجم الكلاب والسنانير بسبب ذلك)، وعبدالكريم بن علي الشهرزوري زين الدين القوصي كانت تتطور أحواله في اليوم والليلة: تارة يباشر المكوس، وتارة ينقطع في بعض الأرباض في زِيِّ الفقراء !. قال أبو عبدالرحمن: أئمة الذوق الصوفي من عباقرة المجانين كابن عربي وابن سبعين وابن الفارض والتلمساني وأحمد البدوي، وكذلك أصحاب الفخر المسرف فيهم ظاهرة اعتداد بالكمال الذاتي لأنفسهم؛ فكان مأثورُهم جنوناً وإن كانوا سَوِيِّين لا سيما غلو عمرو بن كلثوم وأبي الطيب وابن هاني.. وكذلك الذين راضوا سلوكهم بقسوة لم يفرضها عليهم دين ربهم؛ وإنما هي وسوسات الفكر وجنون الخيال كالمعري.. وإذا كنا نجد تقارباً بين الجنون والعبقرية في سلوك بعض الأفراد فإننا نجد هذا التقارب في المدلول اللغوي.. قال اللغويون كابن منظور وابن سيده، وابن الأثير: (عبقر موضع بالبادية كثير الجن يُنسب إليه كل ما يثير العجب في حذقه أو جودته أو قوته)، وإذا كانت ظاهرات الجنون تصرُّفات شاذَّة في المجتمع، فإن العبقرية حالة شذوذ أيضاً؛ فهذا هو لنجورت من علماء النفس يرى أن للذكاء مقياساً لا يصل إليه سوى ستة أشخاص من مليون شخص، وهذا من مبالغات علم النفس، وهو علم حديث فيه ظنون وفيه تضليل متعمَّد ولا سيما عند فرويد اليهودي.. ويرى فرانسيس جولتون: أن العبقرية قدرة إبداعية ذات مستوى عال بشكل غير مألوف كما هو ممارس في المنجزات اليومية المعتادة؛ ولندرة الحالتين كانت العبقرية كما يرى سيزار لومبروزو (1836 - 1909م) صراعاً فيما بين الذات والبيئة. قال أبو عبدالرحمن: وكذلك انفصام الشخصية.. كل موضوع يتطرقون إليه يتشعب إلى غير نهاية أمام عقولهم الخصيبة.. قال أفلاطون عن الشاعر: (لا يمكن أن يبتكر قبل أن يلهم فيفقد عقله)؛ ولهذا كان لامرتين لا يفرق بين العبقرية والمرض العقلي، وقال لانج ايكياوم: تزدهر العبقرية بما يلي: 1 - زيادة المرض؛ لحدة الانفعال، وقلة المقاومة، وضبط النفس؛ فيكون مرهف الحساسية لأبسط المثيرات. 2 - الشعور بالتعاسة والقصور ومحاولة التعويض؛ فتزداد دوافعه بما لا يتوفر للأصحاء. 3 - بعض أنواع الاضطراب يصحبها نشاط قوي في التخيُّل، وكان لنجفيلد يقول: (لا تقل فلان كثير الانفعالات لأنه فنان، ولكن قل: فلان فنان لأنه كثير الانفعالات). قال أبو عبدالرحمن: حدة الانفعال ليست ظاهرة جنون دائماً، ولكنها في الأغلب غضب مهذَّب للانتصار للحقيقة إذا أُهينتْ بغير علم.. والشعور بالتعاسة الذي يجرُّ إلى محاولة التعويض لا يكون أبداً عند عبقري مخلص لفنَّه بصدق مع النفس واستعلاء على سلوك سُبُل المغالطة.. ولا يعتور حياة عبقري مسلم يريد بعلمه الدينونة لله لا الرياء.. والنشاط القوي في التخيل في الأكثر ظاهرة صحية لدى الفنان إذا كان مرهف الحس مُتَّخماً بالمعارف والتجارِب شديد التأمُّل بكثرة.. وقال مالرو في كتابه أصوات السكون: (لقد كان الجنون في العصور السابقة حالة انحطاط، وكان التعبير الذي يصدر عنه تعبيراً عن عالم غير متناسق، ولكنه أصبح اليوم نوعاً من الرؤية وتحريراً للعالم).. وهكذا أدب السورياليه جنون بحت، وليست كل النظرة القديمة كما قال مالرو، فهذا أرسطو من القدماء يقول: (إن أغلب أعاظم الرجال يغلب عليهم المزاج السوداوي).. وقد أكد عدد من علماء النفس أن حال المرض النفسية تعمل على تحرير العبقرية، إلا أن الجنون المطبق يُعطِّل العبقرية فيتلاشى الفكر المنظَّم، وإن كان ذلك الجنون من أعراض العبقرية، ومن هذا الصنف الآنسة صفية رفعت خريجة كلية الآداب نالت إجازتها الجامعية بتفوق، وكانت طريحة الفراش بمستشفى الأمراض العقلية فتعطَّلت موهبتها، وقد نشرت مجلة الجيل الجديد مأساتها.. وهذه التحليلات النفسية للعبقرية والجنون إن صح منها شيئ فهي عن أناس لم يحييوا حياة طيِّبة مباركة بإيمان يشرح الصدر وُيُفَتِّق العقل.. وعكس هؤلاء يصبح عندهم العبقرية والجنون متلازمين كسقراط مثلاً كان يعاني كثيراً من أعراض المرض العقلي في الوقت الذي كان فيه من أئمة الفلاسفة، وقد يكون جنون العبقرية تصرفات شاذة كما أُثر عن أرسطو أنه ظل يوماً كاملاً وهو واقف يفكر، وكبشار بن برد كان سريع الغضب سيئ الخلق متظاهراً بالمنكرات إذا أراد أن ينشد بصق وصفق بيديه وتنحنح.. وهناك عباقرة ليسوا مجانين ولا سيما من العرب والمسلمين يفوقون عدد العباقرة المجانين أضعافاً مضاعفة، وأكثر العباقرة المجانين كانوا عباقرة قبل أن يكونوا مجانين، واختفاء الموهبة لمرض عقلي أكثر من ظهور الموهبة حالة المرض، وأعمال العباقرة حالة جنونهم حُظيت بعطف شديد؛ فخلِّدت لغرابتها.. وقد كتب في هذا الموضوع: لانج ايكياوم الذي ألف مشكلة العبقرية، وفرانسيس جولتون الذي ألف العبقرية الموروثة، والدكتور مصطفى سويف الذي ألف العبقرية والفن، ويوسف ميخائيل أسعد الذي ألف العبقرية والجنون، وكثير من النماذج أخذته من كتاب هذا الأخير ومن أعداد من مجلة المصور والاثنين والجيل الجديد والأسبوع العربي وكتب التراجم العربية.. وهناك علماء عقلاء ولكن إنتاجهم جنون فكري كأسفار المغني للقاضي عبدالجبار بن أحمد المعتزلي؛ فذلك جنون فكري لتغييبهم الشرع وَفْق دلالته المشروعة، وَلِوَهْمِهم في تحرير أو تصور الواقعة التي يريدون علاجها، وعدم استخدام العقل حسب تسلسله الرياضي.. والجنون بحمد الله نادر في عباد الله المسلمين وعلمائهم الربانيين؛ وإنما يحدث في عامتهم لأسباب منها الحرص على مباهج الدنيا والشعور بالهضم، ومنها التورط في الديون المتعذِّر سدادها إلا بمدد من الله سبحانه، ومنها ضعف الإيمان وقلة العبادة والانهماك في المعاصي، ومنها الوحدة المنهيُّ عنها، ومنها إلغاء الأدعية الشرعية الموظَّفة والمطلقة، والمحافظة على الأدعية مَأْمَن، وهي إذن الله بعد إيجابه دعاء بالسلامة وسداد الأحوال.. والاستعاذة من الجنون والجذام وسيِّئ الأسقام مما حثَّ عليه الشرع المطهَّر.. وتعتريهم لظاهرة الكبر والتخريف والمرض وضعف البنية هِجِّيرى واختلاط؛ فهكذا الرد إلى أرذل العمر، والمريض زاكي العقل عجَّل الله تطهيره بالمرض.. ومن العيب الفاضح أن نترنح بأبناء العرب والمسلمين السَّوِيين وراثةً وديناً بالأعاصير في أمور نظرية نملك أصولها؛ فيكونون متتلمذين لمجانين العباقرة وعباقرة المجانين.. وليس معنى هذا إسدال الستار على الجديد من عطاء العالم قديماً وحديثاً؛ وإنما نقرأ بزكاء (بالزاي) المؤمن، وعبقرية الفكر المنظَّم رياضياً، والتصوُّر المطابق للوقائع؛ فإن صحة التصور ضمانة لصحة الحكم بإذن الله.. وبالحس المرهف المتربي فكراً وثقافة في حضانة التصورات التي وعاها من دينه المعصوم، والله المستعان.
وكتبه لكم
أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
- عفا الله عنه -
الهوامش
(1) مجموع الفتاوى 12-23.
(2) مجموع الفتاوى 5-199.
(3) مجموع الفتاوى 5-118 - 119.
(4) مجموع الفتاوى 12/17.
(5) قال أبو عبدالرحمن: انظر اتهام أهل الضلال لأهل السنّة والجماعة في مجموع الفتاوى 5-110 - 111.
(6) قال أبو عبدالرحمن: عوضتُ عن ذلك بمتابعة الفكر الفلسفي العالمي من ترجمات كثيرة، ومن سياقٍ للفكر البشري بلغتي العربية، وهذه ضرورة لغيري ممن يُجيد لغة ثانية أو أكثر؛ لأنه مضطر للترجمة فيما لا يعرفه من اللغات، ومحال أن يحيط الفرد بلغات العالم.