استبشر المواطنون أجمعهم بقرارات ملك الإصلاح والإنسانية الملك عبدالله بن عبدالعزيز بإحالة المتهمين في مأساة جدة إلى التحقيق وتطبيق ما يتأكد بشأنهم من عقوبات حسب ما تقتضيه الأحكام الشرعية.....
.....وينتظر مَنْ فُجع بفَقْد أحد أفراد أسرته أو أُصيب في ماله ما تسفر عنه جهود اللجنة المشكَّلة لهذا الغرض العدلي الشريف. كما أن تطبيق مبدأ العدالة الذي وعد به الملك عبدالله شعبه حين قال «سأضرب هامة الجور والظلم بيد العدل» سيفتح آمالا جديدة لإصلاح مواضع أخرى في الجهاز الحكومي لا تخلو من أساليب فساد متعددة وبأشكال وأنماط احتيالية وألاعيب مبتكرة للقفز على الضوابط والأنظمة الإدارية والمالية.
ظاهرة جدة وما تبين تحت السيل من أدواء كشفت أيضا كم هو مؤلم إلى حد اليأس أحيانا استقواء صاحب النفوذ على المحتاج المتلهف على سكن يؤويه وعائلته حتى لو كان في بطن واد أو على سفح جبل، حين يكون المتر في غير الوادي وفي غير سفح الجبل بألفين أو أكثر!.
الفساد لم يتوقف عند مجار لم يظهر منها غير أغطية التفتيش، ولا عند معابر سيل لم تفتح، ولا عند زحف أسوار أو شبوك على طرق سالكة أو مسايل أودية كبيرة، ولا عند جسور تتهدم، أو أنفاق تغرق، أو مشاريع ترسى قبل أن تعلن، أو شركة أو مؤسسة تتوحد بمشاريع جهة ما ولا يمكن أن يكون لها شريك مثل الفريك!!.
الفساد لم يتوقف عند ابن وزير لم تلد الأرحام سواه ليتفرد بكثير من معطيات وزارة ما، ولا عند نسيب، والمثل يقول « كن نسيب ولا تكون ولد عم» أو عديل أو قريب أو كان جارا لنا، أو نحن وإياه من ديرة وحدة!.
الفساد لم يتوقف عند «كاتب عدل» فقير جدا بل «مدقع» جدا لم يعرف ركوب السيارة الفخمة الخاصة ولا القصر المنيف ولا المزرعة الفارهة إلا بعد أن تعرف على حيل كيف تفرغ «الصكوك» وكيف يستخدم ذكاءه ولا يتعارض مع ذكاء ملاك العقار ليفيد ويستفيد؛ فتأتيه الهبات والتسهيلات والعطايا بطرق تلتوي وتتعرج ولكنها في النهاية تصب في حسابه الخاص، ولا «قاض» كانت نعله مخروزة لقدمها وتهالكها، وسيارته «دباب خرينق» وسكنه غرفة ملحقة ببيتٍ لأحد المحسنين بحجة أنه طالب علم حتى إذا التحق بسلك القضاء بعد تخرجه وبين ليلة وضحاها غدا يملك مزارع النعام والمجاميع السكنية وإسطبلات الخيل ولا يتحرك إلا ومخططات الأراضي في سياراته الفارهة، فهي همه إن غدا أو راح!!
أليس هذا مدعاة لسؤال، فقط «سؤال» استفهامي يمكن أن يطلق عليه أي اسم للتحقق من مصادر هذه الثروة المفاجئة؟!!
كاتب عدل أو قاض لا يتجاوز راتبه في أكثر الأحوال، وبعد طول خدمة، ثلاثين ألف ريال، كيف يمكن أن يكون «هامور» عقار في سنوات لا يمكن أن تتجاوز أصابع اليد الواحدة أو اليدين إن طال به ذكاؤه وقعدت به جرأته ومنعه التردد والخوف؟!
والثلاثة عشر الذين أحيلوا للتحقيق من كتاب العدل ليسو إلا بعضا قليلا من كل كثير، وعد معالي وزير العدل الدكتور محمد العيسى - أعانه الله - بمواصلة البحث والتحري لتطهير وزارته من الضمائر والأيدي الملوثة حتى ولو سعت إلى الهرب من مصير الاستدعاء والتحقيق بالاستقالة أو التقاعد المبكر!.
كيف يمكن أن نجمع بين ما وقر في مخيلتنا منذ آماد طويلة وما تناسل إلينا من موروثنا الديني من صور نقية متطهرة زاهدة عفة روحانية جريئة في الحق باطشة على الباطل للقاضي النزيه الذي يسعى إلى تحقيق مبدأ العدالة والنزاهة وإنصاف المظلومين ثم نصدم بما يزلزل تلك الصورة البهية الجميلة؟!
وكيف لنا أن نصدق أو أن نقبل أو أن نرتاح لصورة كاتب العدل الرجل العف المحتسب القائم على تثبيت حقوق الناس بالأدلة والاستقصاء والشهود ثم تفجؤنا منه رائحة رخيصة مرتشية آثمة تتهاوى في دخانها الحارق كل صور الطهر والبراءة والنزاهة والعفة والسمو؟!
الحسابات السرية وغير السرية بأسماء البنين والبنات، والأموال المخبأة التي لم تدخل في حساب هروبا من تشكك أو سؤال، والأراضي المتناثرة هنا وهناك، والمجمعات والمزارع ومحطات البنزين والمشاريع التجارية المختلفة والاستثمارات المتعددة في الخارج من فقراء مدقعين قبل «الوظيفة العدلية» إلى لاعبين كبار في سوق العقار والأسهم والاستثمار بشتى صوره مدعاة - على الأقل - لسؤال بريء في زمن الإصلاح هذا، زمن عبدالله بن عبدالعزيز.
هذا المال الذي كنزوه ليس مالهم!
وهذا العقار الذي تساقط في محافظهم ليس عقارهم ولا هم ورثوه أو سعوا إلى كسبه من تجارة معلومة!
إنه مال الناس المحرومين الذين سيضطرون إلى شرائه لاحقا بالقرض المضاعف أو بالمبالغة في سعره أضعافا مضاعفة إن قدروا عليه، أو هربوا من ناره إلى نار الأودية التي يهددها السيل أو النائي البعيد من المخططات الذي لن تصله أية خدمات حتى ولو بعد عقود من الزمن، فيجلب المسكين المضطر ماءه بالوايت ويسحبه فضلات لاحقا بالوايت أيضا!.
الفساد لم يتوقف ولن يتوقف عند مأساة جدة أبدا!
فخزينة وزارة ما تبدو خاوية قبل أن تنتصف السنة المالية حين رحل عنها وزيرها مدعاة أيضا لسؤال، بل أكثر من سؤال!!
ووجود نفر قليل من المحسوبين على «مسؤول» ما في إحدى دوائر الدولة مدعاة لإثارة استفهام ما؟!
ألا يوجد في البلد غير هذا الولد؟!
كيف يمكن ألا تدار المسؤوليات ولا تسند العقود ولا تتم التكليفات ولا تتقاطر الترقيات ولا تمنح التزكيات إلا لهذه العصبة من المقربين والمحسوبين واللصيقين بذلك المسؤول؟؟!!
حين يأتي «وزير» ما إلى «وزارة « ما ثم يصفي الطاقم القديم هكذا عشوائيا ليفرغ الأمكنة لأصحابه وأنسابه وأبناء حارته أو بلدته أو منطقته ماذا يسمى هذا؟!
أليس هذا صورة واضحة من صور «الفساد»؟!
أليس لدى الموظفين السابقين لطلة معاليه خبرات وتجارب ومعرفة وعلم بخبايا وأسرار الوزارة التي قدم إليها معاليه وهو لا يدرك من أمرها شيئا ثم بعد زمن يسير وبعد أن يمسك بأطراف خيوط اللعبة الإدارية يبدأ بالإحلال والإبدال، وليته من الأسوأ إلى الأصلح؛ لكان هذا هو المطلوب الذي ربما أتي به من أجله؛ بل من الأصلح إلى الأسوأ والأجهل، والمعول عليه المعلن في هذه العملية تحقيق مبدأ «من لا أعرفه لا أرتاح له ولا أثق فيه، وسآتي بمن أعرفه وأثق فيه»، وتظل هذه الدائرة أو تلك بين رحيل وهروب واستقالات أو إقالات، وغرباء جدد على المهنة وجهلاء بأمر هذه الدائرة أو تلك حتى إذا تحقق لهم ما يطمحون إليه أو بعضه وفاحت رائحة المكان صدر قرار يصلح أمره ويقضي بالتغيير وتبدأ العملية الإحلالية والإبدالية من جديد وهكذا، والخاسر الأكبر في هذه المراوحة بين القديم الراحل بطاقمه والجديد الآتي بعصبته هو «الوطن» وحده، هو الذي يخسر الطاقات المؤهلة بعد خبرة طويلة وتدريب ومران ووعي بدقائق أمور المصلحة، ليأتي جديد يبدأ في اكتساب مهارات بدائية ويتعلم كيف يضع قدمه على بداية الطريق كمن يقود سيارته لأول مرة!.
وما دمنا في سيرة الإصلاح الذي فتح بابه بكل الثقة والقوة وصدق العزيمة ملكنا المحبوب المنصور بإذن الله عبدالله بن عبدالعزيز؛ أتساءل بكل الشفافية والولاء والصدق والمحبة للقيادة الحكيمة وللوطن العزيز:
كيف يمكن محاسبة أي وزير أو مسؤول لم يصدق في أداء مهمته بأي وجه من الوجوه، سواء بطريق الكسب غير المشروع، أو استشراء داء المحسوبية، أو بأية طريقة تسهيلات معروفة أو غير معروفة؟!
وما دامت قرارات ملك الإصلاح الجريئة نزعت الحصانة من كل أطياف المسؤولية الحكومية في حادثة جدة؛ فهل يمكن أيضا نزعها - على هذا النحو من القياس - من أي وزير أو مسؤول آخر؟ بمعنى هل ستتوقف قرارات الملك - وفقه الله ونصره - على ما حدث في جدة؟ أم أنها خطوة عدلية تعزز النزاهة على الإطلاق وتكافح الفساد بشتى صوره على الإطلاق في أي موقع حكومي ولدى أي مسؤول مهما كان؟!
إن هذا الاحتمال الأخير هو ما أوحى به نص القرار الملكي الحكيم الذي سيفتح الباب واسعا أمام تحريات كثيرة عن طريق أجهزة التحري والتدقيق المعروفة في الدولة ويمنحها صلاحيات واثقة ومدعومة من أعلى سلطة في هذه البلاد الطيبة وهو الملك حفظه الله.
وهذا ما يدفعني وكثيرين غيري إلى المطالبة بتفعيل هيئة النزاهة ومكافحة الفساد التي صدر بها قبل ثلاث سنين قرار من مجلس الوزراء، ولم يتم تشكيلها بعد، وقد حدد القرار الصادر آنذاك واجبات ومسؤوليات هذه الهيئة وحدود عملها، وأكاد أجزم بأن خطوة الملك القوية الجريئة الأخيرة بشأن قضية جدة هي مؤشر قوي جدا لصدور قرارات قريبة منتظرة بشأن تفعيل هذه الهيئة لكي لا تكون معالجة محدودة لقضية واحدة فحسب؛ بل منهجا دائما تحكم به قضايا الفساد في أي موقع كان ومن أي مسؤول كان.
وفق الله قائدنا النهضوي المصلح العادل لما فيه خير بلادنا وتقدمها ورفعتها، وحماها من شرور كل فاسد وخائن ومرتش أثيم.
ksa-7007@hotmail.com