معظم الشرائح الاجتماعية تعاني اليوم من الحركة المتنامية لتصاعد وتيرة الأسعار التي أغرقت الأسواق بطوفانها الهادر وبات المشهد العام محكوماً بذلك المنطق الاقتصادي المشوه..
..الذي راح ضحيته ذوو التحصيل الاقتصادي المنخفض والذين باتت حيازتهم للضرورات الحاجية فضلا عن تأمين الكماليات التحسينية شأن متعذر المنال!. الاستفحال البالغ للأسعار والاستشراء الحاد للنفس التجاري المُغْرض تفشى وبشكل رهيب وبات الكل يكتوي بناره وعلى وجه الخصوص تلك الشرائح التي تعيش في ظل ظروف قاهرة كما هو الحال بالنسبة للأيتام والأرامل والمطلقات والمعوقين والغارمين وذوي الدخل المادي المحدود بكافة ضروبهم، حيث ينتظمهم قاسم مشترك يتمثل في العيش على حافة الفقر, أو تحت خطه، وبالتالي عدم القدرة على توفيرالمستلزمات الأساسية التي يتعذر استقامة الحياة خِلْوا منها. في ظل تلك الوضعية المأساوية كيف يعيش ذلك المعدم الذي بالكاد يظفر بقوت يومه مما جعل الدنيا تبدو في عينيه سوداء قاتمة بددت من أعماقه كل حادٍ للحياة؟! كيف تعيش تلك الأسرة المحطمة التي فقدت عائلها الذي غيبه الموت فاكتفت بمناجاة طيفه مما ضاعف من حمم معاناتها وعمق فيها خيوط القلق؟! يا ترى كيف يعيش ذلك الكهل الذي تلمح في وميض عينيه انكسارات تستثير فيك مكامن الشجن؟!. ألا يدرك الأغنياء والموسرون والذين أفاء الباري عليهم بضروب آلائه ألا يدرك أولئك أن هناك أسراً بجوارهم قد لفحها مس من الفقر لا يزالون يرزحون تحت رمضائه, ألا يدرك الذين اقترفوا جريرة رفع الأسعار أن هناك رجالاً ونساءً قد التف الفقر كطوق خانق حول أعناقهم فحطم كبرياءهم وألقاهم مهملين على قارعة الزمن المر؟! ألا يعي المتلاعبون بالأسعار أن هناك عوائل قد ألهبت ظهورها سياط العوز وأحرق أكبادها الاصطلاء بنيرانه التي لا تفتأ تتلظى؟!. ألا يستشعر أولئك عمق المرارة التي يكابدها ذلك الرجل العجوز الذي تناوشته الأمراض في الوقت الذي لا يملك فيه بيتاً يؤوي أبناءه ولا يملك دخلاً ثابتاً يقيم أوده ويسد رمق عيشه.
الباعث على الأسى أن تنامي الغلاء والتضاعف الاطرادي للأسعار بات اليوم يشكل ظاهرة تلف كافة أرجاء العالم العربي، بل وفي ظل غياب الرقيب وتراخي المستهلك بات كل يتفنن وباحترافية فائقة في وضع التسعيرة الملائمة له والتي تدر له الأرباح الطائلة بداية بنادل المطعم ومحلات الحلاقة والمواد الغذائية والفنادق وشركات الطيران ومروراً بالحاجات النسائية والأدوات المدرسية والمنتجات الطبية وانتهاء بإيجار البيوت ومواد البناء وكافة متطلبات المأوى، هذا بالإضافة إلى ذلك الحجم الضخم من الفواتير الشهرية المتصلة بالماء والكهرباء والهاتف وسائر المفردات الاتصالية التي تقصف كاهل الفرد وترهق ميزانية الأسرة وتربك خياراتها. لقد بات من المألوف رفع الأسعار وبأثمان باهضة وبدرجات غير معقولة حتى لدى الباعة المتجولين ومفترشي الطرق والعمالة الوافدة التي تحكمت في مفاصل حياتنا والتهمت مصالح البلد، فالجميع تواطأت قناعاتهم ضمنيا على ضرورة تحويل المستهلك إلى كبش فداء وجعله ضحية يمارس عليها كافة ألوان الاستغفال والاستغلال التدليسي. معظم المحلات التجارية لم يتورع القائمون عليها بل ركبوا تلك الموجة واستغلوا هذه الفوضى موظفين لها وفي حالة من الجشع المسعور في سبيل امتصاص الأموال وإنهاك ذوي الإمكانات المعيشية المتدنية العاجزين عن تأمين متطلبات شروط العيش الكريم. إن من أمن العقوبة أساء الأدب ولو أدرك أرباب رؤس الأموال أن ثمة رقابة مشددة تحاصرهم وأن ثمة عقوبة مشددة ومساءلة عسيرة ستطال كل من ضمرت في حسه أخلاقيات العمل وأن ثمة دساتير مقننة تقف بالمرصاد لكل من تجافى عن تجسيد مقتضياتها لو أدرك ذلك مجسدو الجشع في أبشع صوره لما أقدموا على التهافت على إعلاء منسوب الأسعار ولما تجرأوا على الدخول في سياق تنافسي مثير لالتهام رصيد المستهلك واستنزافه وإرهاق جيبه وابتلاع ما بحوزته - هذا إن وجد - من متتاليات الموارد المالية. نحن نسمع بوجود ما يسمى حماية المستهلك! ولكن الحقيقة هي أن المستهلك بحاجة ماسة إلى من يحميه من حماية المستهلك الذي بات الحلقة الأضعف في هذا السياق المشحون بتمظهرات التوحش المادي. نعي جميعاً أن ثمة أنظمة قانونية تستهدف في المقام الأول والأخير حماية المستهلك ولكننا - وهذه هي المأساة - لا نلمس لتلك الأنظمة امتداداً عملياً على أرض الواقع ولو كان الأمر كذلك لتم القضاء على تلك الأزمة ووضع حد نهائي لهذا التفلت الفوضوي ولأضحت خيارات الحركة لدى الباعة محدودة في إطارات ضيقة تقطع الطريق على الممارسات التجارية المشبوهة وتفوت الفرصة على أرباب الهوس الجشعي. ولكي تؤوب الأمور إلى مسارها الصحيح ولكي تستعيد الأسواق توازنها الطبيعي لا بد من رفع مستوى الوعي الاستهلاكي لدى الأفراد لئلا يتهافتوا على استقطاب السلع الباهضة, إنه لابد من مقاطعة شعبية واسعة لكافة المواد الفاحشة الثمن فالمقاطعة الجادة سلاح يجعل المتاجر الجشع يُسقط في يده ومن ثم ينكص اضطراراً إلى سابق عهده ويشتغل على تبديد تمظهرات الغلاء. إنه لابد من إيقاف هذا الوباء المسعور, والوقوف في وجه تلك الشرذمة التي ابتلي بها الشارع الاقتصادي فهي تتلاعب بأقوات الناس وبلقمة عيشهم على نحو يتعسر تحرير المستهلك من قبضتها الفولاذية.
إن المسؤولية في إعادة الهدوء إلى أسواقنا تقع في المقام الأول على المستهلك نفسه والخيار بيده، فالمطلوب منه التريث وعدم الاندفاع الشرائي لأن هذا الاندفاع يشكل رسالة ضمنية تغري التاجر بمواصلة نهجه الاستنزافي؛ أيضاً تقع المسؤولية في إعادة الروح الطبيعية للأسواق على عاتق وزارة التجارة التي يلفها صمت مفتعل! فهي مطالبة بحسم القضية من خلال توجيه الحراك التجاري وضبط مسيرته، وتقع المسؤولية أيضاً على كاهل جمعية حماية المستهلك التي هي الأخرى مطالبة بعدم التآزر مع المتجاوزين!, هذا التآزر لا يلزم أن يكون مباشراً، بل قد يتم عبر التغاضي وترك الحبل على الغارب وعدم إبداء ما يشي بالإدانة وعدم اتخاذ ما يلزم إزاء هذا اللون من التسعير الافتراسي!
إن المأمول من وزارة التجارة سرعة التحرك الفوري لرصد الأخطاء ومحاسبة المتجاوزين وصياغة آليات للحد من استشراء تلك الظاهرة التي لا تفضي في النهاية إلا إلى تقسيم المجتمع إلى فئتين تعيشان ما بين بئر معطلة وقصر مَشِيد: فئة وهي أقلية ذات غناء فاحش يترقرق الثراء في اختلاجات جفونها المسترخية بفعل ذلك الانكفاء اللا متناهي على ضروب المادي وبنهم يتعذر كبح جماحه، وفئة وهي أكثرية تعاني من لهيب الفقر المدقع حتى فاض بها الكيل وبلغت روحها التراقي.
Abdalla_2015@hotmail.com