منذ أربعين أو خمسين عاماً، كنت تسهر في ليل قرية عربية فترى الناس يتسامرون في حدود ما وقع في قريتهم على ضوء مصباح غازي أو بقنديل زيتي.. فيما يقع من بيع أو شراء وزواج وطلاق.. يتخلل ذلك ملحة وطرفة أو موعظة يختتم بها السامر، لا يتجاوزون حدود قريتهم إلا قليلاً بحديث قد يمتد أحياناً لعاصمة دولتهم أو قطرهم، يرون الدنيا هذه الدولة ويرون قريتهم هي مركزها وليس للدنيا إلا أن تدور حولها وحولهم.
ولو اطلعت اليوم على السامر نفسه في القرية نفسها لأدهشك أن ما يحدث في واشنطن وبنما.. وما يقع في موسكو وأذربيجان والأفغان حاضر بين هؤلاء البدو والفلاحين.
وإن التلفاز والفيديو يتصدران السامر في البيت والمقهى، وأن البث التلفازي على مدار اليوم كله وبمستوى عالمي عبر الأقمار الصناعية.
لقد انتقل العالم إذن كله في خط الرؤية والفكر إلى القرية الصغيرة، فهذا زمن الحشر التلفازي، يجتمع من أنحاء العالمين رغبنا فيه أم لم نرغب.
نقول يدق كل عقل وقلب.. ولا نقول يدق كل باب..
لأنه لا يستأذن أحداً ولن يستأذن!!
فهذا إيذان بنهاية (العقل الجزئي) في العالم الذي يعيش في إطار القرية الصغيرة ومولد (للعقل الشامل) الذي يرى الدنيا وهي تموج بعضها في بعض في يوم واحد بل في اللحظة نفسها.
وحين يستقر هذا العقل الشامل الجديد على تلك الرؤى الواسعة فيستوعبها فسوف يشهد العالم من التطورات ما يتجاوز خيال المتخيل.
في الثلاثينيات من القرن الماضي دون الكاتب المشهور (جورج أورول) قصتين ذاعتا في العالم (مزرعة الحيوان) و(العالم عام 1984) متخيلاً ما سيحدث في العالم بعد خمسين عاماً، فلما انقضت الخمسون المذكورة رأينا العالم يبحر متجاوزاً ما عدّه قراء ذلك الكاتب الأديب خيالاً لا يمكن أن يتحقق.
نتحدث عن هذا العقل الشامل وفي الذهن محاذير كثيرة، فإن معظمنا وأهل العالم معنا في ذلك لا يرون ما يرون ولا يقرؤون ما يقرؤون إلا من خلال ما تراه وكالات الأنباء العظمى، ولها معاييرها وفلسفاتها واهتماماتها فيما ترى وفيما تحجب.. وفيما تصغر وتكبر فهي من خلال ما تطلعنا عليه من خبر وصورة تكاد تصنع محاور أحاديثنا اليومية واهتماماتنا العقلية والعاطفية، ولذا فإن حرية عقل الإنسان المعاصر حرية محل نظر.. ومن يستطع أن ينفذ من أقطار تلك الموجهات السمعية والبصرية العظمى.. فلينفذ! ولا ينفذ في الحقيقة إلا بسلطان من علم وخبرة وقراءة منتقاة، وتأمل وإرادة لا تلين.