تخيل الحب
بددت يوم الأحد الماضي من بعد صلاة الفجر إلى ما بعد صلاة الوتر قرب منتصف الليل في اللعب بالماء، كأي طفلة غرة لم تلدغ طراوة أصابعها بعد عقارب الوقت،....
.... ولم تغلق معابر قلبها المتفتح للتو خشية الخيبات ولا تعنيها من قريب أو بعيد عقدة العمر ورهاب السنوات. فكنت أكتب وأمحو مرة بالحبر ومرة بالرمل، مرة بالموج وأعشاب البحر ومرة بمراود الأمل ونوافير السراب ومرة بمفاتيح الكمبيوتر وأزرة الجوال.
كما لم أكن أكتفي بالكتابة والمحو، بل إنني إمعاناً في لعبة الماء كنت أغط رأسي إلى ما تحت ترقوّتي في قراءة تلك الرسائل التي كانت تصلني من أنحاء العالم عبر البريد الإلكتروني وعبر رسائل الجوال، على مدار الساعة من ذلك اليوم الذي يسمّونه في التقويم الميلادي بيوم الحب. وإنْ كنت أسميه وسمية الوجدان دون أن أربطه بيوم واحد في السنة، ليس فقط من باب رفض التقليد، ولكن أيضاّ لأنّ عاطفة الحب كالأمل أطول من عمر الإنسان، فكيف يمكن اختصار التعبير عنها بيوم واحد في السنة.
قراءة الحب
وهذه العينة العشوائية من بعض رسائل الاحتفاء بالحب، تكشف لماذا أقترح الخروج على تقليد ربط الاحتفاء بعاطفة الحب النبيلة بوحشيتها وشفافيتها معاً بذلك اليوم من التاريخ الميلادي وحده، وتعميمه على بقية أيام السنة بهوياتها التاريخية المتعددة.
- رسالة أولى:
تذكّري في كل لحظة حب هذا الحديث الضافي:
(عن أنس رضى الله عنه أنّ أعرابياً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: متى الساعة؟ فردّ سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم: وما أعددت لها؟ قال الأعرابي: حب الله ورسوله. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أنت مع من أحببت).
«إذن لنعمل على أن تغمر قيمة الحب ومضمونه واقعنا المعاش معاً على طريق التحابب لا التحارب».
- رسالة ثانية:
«كل لحظة حب وأنت النبض لقلبي والنسغ لأشجاري والعبير لقهوتي والنور لشاشتي والحبور لأفراحي».
- رسالة ثالثة:
أنتِ ملح حياتي وخبزها وأنتِ كلماتي فإنْ غبت يوماً عني فإنك تتحملين طائلة حرماني من حقوق الإنسان الأساسية.
- رسالة رابعة: (مترجمة)
لو أنّ قطرات المطر قبلات لقبّلت رأسك إلى أن يصل شعرك حافة البحر وتتحوّل البيداء إلى غابات. لو أنّ اللقاء نجوم لما نزلت عن سلم السموات. لو أنّ الحب شخص لما كان سواك.
- رسالة خامسة:
«يا نبع الحب يا نهر الحزم والحنان، حباك الرحمن بحرير الصحة وصبحك بهديل الحمام وحفظك في كل رمشة عين بعينه التي لا تنام».
- رسالة سادسة:
صباح الاحتفاء بالحب
لنقف لحظة فرح على ما احترق من قلوبنا وما لا يزال قابلاً للاشتعال
الاستشفاء بالحب
وبعد ..., لكم إن شئتم أن تشاركوني الخيال, فمع نهاية سحابة النهار اجتاحني مطر غزير مصحوب بشمس تسفر في دلال وبروق مختالة ونخيل باسقة وعرائش أعناب، فما كان مني كجدتي «ماوية في جودها» إلاّ أن دعوت المخلوقات العطشى من عرفج متجعد وريحان ليس له رائحة وأحصنة ملوية الأعناق، وحباري مهيضة الجناح وقنافذ حتت أشواكها وغدران مغدورة وينابيع متيبسة ومفازات مهجورة ونوافذ مغلقة وفساتين «مطفئة « وطواقي «زري» مشغولة بالدمع وكتب يعلوها الغبار، وأشركتها جميعاً معي في لعبة الماء. وما لبثت أن انضمت إلى مائدة الماء عجلات نائمة وعيادات مكتظة بالمرضى، وطرقات تتنهد الوحدة وفضة يعلوها الصدأ، ومواقد مترمدة وطوابير عاطلة، وأخرى مسرحة من العمل، وبيوت مائلة على أصحابها وأصحاب ليس لهم صاحب، وأطفال بدون عائل وأرباب ليس لها سوابق وأحلام مرجأة. فلم يبقَ مخلوق من تلك المخلوقات وسواها التي كانت معتمة كقناديل مطفأة وكئيبة كآبار مطمورة، إلاّ وسرت في كيانها نار الماء، فانتشت وبدأت من جديد تشرق ببهجة الحياة.
ذكّرني توهّج تلك المخلوقات بفعل الماء بتوهّج كؤوس الكرستال حين سكب فيها الكميائي بطل رواية الكاتب البرازيلي بول كويلو, محلول الشاي بلونه اللهبي الشفيف، فتحوّلت من آنية خرساء مقعدة على الأرفف في مقهى معزول لا يحس بها أو به أحد، إلى مرفأ مغرد يلتقي عنده أهل الإقليم والأقاليم المجاورة والبعيدة وعابرو الصحراء ليفكوا رقية الصمت والظمأ عن أرواحهم.
حوار في أشكلة الحب
وأخيراً بما أنّ البعض سيبدأ بإعداد التهم الجاهزة لتجرئي في التطرُّق لحديث عن يوم الحب، بل بعضهم سيدين دون أن يقرأ وربما لمجرّد أنه سمع من فلان عن فلان عن فلان فهمه الخاص لما كتب، فإنّ من غير المجدي أن أتوقف في توضيح لن يسمع، لأنّ من يقرأ دون مصادرة مسبقة لن يحتاج لشروحات وتحليلات دون أن يصادر اختلاف الرأي حق التعبير، وحق الحوار.
وهذه المواقف المصادرة ما هي إلاّ امتداد لمواقف اجتماعية خلافية تجري محاولة طمس تباينها وخنق إمكانية التحاور فيها، والتوصل إلى موقف عقلي منها تحت طائلة التهديد والتخويف من محاولة الكشف عن خلافيتها. والواقع أنّ الموقف الاجتماعي من ما يسمّى بيوم الحب، أصبح وخاصة في العقد الأخير يصلح أن يكون مثالاً لكيفية سلوكنا الاجتماعي الذي يتعامل مع الأعراض ويتعامى عن المسببات. فما أن يقترب تاريخ 14-2 من كل عام إلاّ وتنشط جهات في مصادرة كل ما تعارف على أنه رموز للتعبير عن الحب من الوردة الحمراء إلى الكاتشب والشطة. مع ملاحظة الإصرار على إسباغ صفة العيد على مثل هذا اليوم مع أنه يسمّى يوم الحب وليس عيد الحب.
هذا بينما في المقابل تتأجج الرغبة لدى فئات أخرى للاحتيال على هذا الموقف الذي يرون فيه مصادرة للاختيارات الشخصية في السلوك والتعبير.
وإذا كانت حجة المنع غالباً ما تتمترس خلف مواقف متشدّدة فتحصل على حصانة المقدس وتستعمله كقوة ردع للطرف الآخر، بغض النظر عن دقة مواقفها ومدى خطورة أسلوبها التخويفي، فإنّ الطرف الآخر أيضاً لا يبدو أنه قادر على امتلاك أسباب مواقفه وعقلنته والدفاع عنها. فيلجأ لتستر يثير الريبة بدل الطرح الواضح والاستعداد لتحمل المسؤولية فيه.
والواقع أنّ الموقف من الاحتفاء بالحب هو موقف معقّد ليس لطبيعة هذا اليوم في ذاته، ولكن لأنه انعكاس للموقف المركب بيننا وبين الغرب فيما يمكن تسميته علاقة الهيمنة وعلاقة التابع في جانبها السياسي والاقتصادي، بل والعسكري وللعلاقة الملتبسة بين الحضارة الغربية والثقافات الأخرى.
ومما يعقد في هذا السياق مثل هذا الالتباس، هو موقف المؤسسات الغربية الرسمية من مناسبات الجاليات المسلمة في بلادها التي يجري فيها تجاهل حق الاحتفاء بالأعياد مثلاً.
إلاّ أنّ السؤال المنطقي في الجانب الخاص بنا هو لماذا لا تظهر عقدة هذه العلاقة ومحاولة محاكمتها إلاّ في مواضيع بعينها، مثل مناسبة الاحتفاء بالحب، بينما قد تمر جيوش جرارة ومعاهدات سياسية غير متكافئة ومرهقة، وليس من أولئك المستقوين في محاربة عرض من أعراض العولمة مثل مناسبة الاحتفاء بالحب من يجرؤ على أن ينبث ببنت شفة؟.
إنّ هذا السؤال الذي يبدو بديهياً تتحوّل الأنظار عنه، عندما لا تكون هناك إستراتيجية واضحة للمجتمع لأسئلة أكثر بديهية، وهي ما الذي نريده كمجتمع وما الذي لا نريده ولماذا وكيف وبمن ولمن؟!
إنّ ديناً سمحاً يسمّى فيه رسول هذه الأمة صلى الله عليه وسلم بحبيب الله هو بالتأكيد ليس دين ضد الاحتفاء بالحب. كما أنّ ديناً لا يؤمن فيه الإنسان إلاّ إذا أحب لأخيه ما يحب لنفسه هو دين يحتفي بالحب بكل المعنى السلوكي والمعنوي للكلمة.
والسؤال هنا هل إذن المشكلة في الاحتفاء بالحب أو هي إشكالية في العلاقة المعرفية والسلوكية بالحب؟
وإذا عرفنا أنّ يوم الحب في الغرب ليس كما يجري الإيحاء لنا بأنه «يوم للحب بالمعنى المجوني»، بل هو احتفاء بكل أشكال الحب من الحب الأسري إلى الصداقة وما إليه من أنواع الحب، بما فيها ما نجده في كتاب طوق الحمامة لابن حزم، فإنّ السؤال الذي يطل برأسه لماذا إذن يجري أشكلة يوم الحب على وجه التحديد والترصُّد عندنا، وكأنّ عاطفة الحب التي جبل الله بني البشر عليها نوع من الفعل «المحرم»،
لقد تعدّدت معاني ما يسمّى بيوم الحب وسلوكياته في المجتمعات الغربية نفسها، وإن كان بعضها قد أعتقه من خلفيته المثيولوجية، فإنّ بعضها الآخر قد ربطه بعجلة الاستهلاك الرأسمالي حتى تحوّل التعبير عن الحب إلى صناعة باهظة, حيث لم يَعُد الاحتفاء الوجداني المحض بالحب إلاّ قصراً على القلة من الحالمين والشعراء.
وإذا كان تيار العولمة قد جعل من هذا اليوم مثله مثل يوم الشجرة أو يوم المرور أو يوم الطفل يوماً لاستعادة الوعي ببعض المعاني الإنسانية النبيلة وتكريس ممارستها جماعياً واجتماعياً، فإنّ تحدي التعدد الثقافي والحضاري عبر مجتمعات العالم، ومنها مجتمعنا، ليس في محاربة الاحتفاء الإيجابي بالعلاقات الإنسانية السوية، بل بالإضافة النوعية الإبداعية عليها بحيث يصبح للاحتفاء بالحب مثلاً أو بيوم الطفل نكهة وطعم الأرض التي ينتمي إليها المجتمع ورائحة ثقافته ووجده وتجديده. هذا وأسأل الله أن يرزقنا حبه ما حيينا وحب الطيبين من خلقه لنستطيع الصبر على كبد الحياة وكفاحها.