ما زالت طائفة منا غير قليلة العدد تؤمن بأن في وسعها أن تعيش حياتها بمعزل عما يحدث في العالم من متغيرات، وما يعيشه من صراعات، وما ينتجه من حسن وسيئ!.
هذه الطائفة الممانعة الرافضة المواجهة تريد أن تحبس نفسها في سجن عالي الأسوار، تقوم على جهاته الأربع أبراج مراقبة بمناظير ونواطير ورجال غلاظ شداد، بحيث لا يدخل هذا المربع المحروس من الكرة الأرضية غريب، ولا يطأ ترابها منكر، ولا يختلط بهوائها ريح أخرى!.
هذه الطائفة العجيبة تعيش في وهم كبير، بأنها من يسير العالم، ومن يرسم حدوده، ومن يصنع له قيمه وأخلاقه، ومن يملك أمره في السراء وفي الضراء، فهي - كما تزعم - موكلة بالكون كله، لو أرادت له الهلاك أهلكته، ولو أرادت له الصلاح والاستقامة والسير على ما تريد لاستجاب لها القدر، وهي تسعى إلى ذلك مجتهدة، مؤمنة أشد الإيمان أن العاقبة المرجوة المنتظرة لها على كل حال.
طائفة تريد أن تتوارث الهواء نفسه، وتتناقل المفهومات نفسها، تخشى أن يمس مفهوماتها أذى من حوار مع غريب، أو تثاقف مع فكر آخر، يرعبها الجديد، وتفرق أشد الفرق من كل جديد محدث غير مألوف!.
هذه الطائفة الممانعة المناكفة الرافضة هي من تريد من العالم كله أن يخضع لها، فلا يفكر إلا كما تفكر، ولا يرى غير ما ترى، ولا يسمع غير ما تسمع!.
ترسل أفرادها ليقسروا العالم كله على الحق الذي تزعمه قسراً، وتؤطره على طريق الصواب الذي لا ترى سواه أطراً!.
تبعث بمن تسميهم (مجاهدين) ليقتلوا آلاف الناس بتفجير أبراج مأهولة على رأس ساكنيها من الآمنين باسم الدفاع عن الحق!.
وترسل من ترى أن مصيرهم الجنة لا محالة إلى مسؤول أمن قائم على حماية أرواح الناس وأموالهم وأعراضهم، فتحشو دبر (المجاهد) المزعوم بكبسولات متفجرة ليثير الذعر وينشر الدم والقتل والتوحش!.
ثم لا ترعوي عن هذا الغي، ولا تتراجع عن هذا الإثم والفجور، فتحرض الشباب الأغرار على المضي إلى مهاوي الهلاك ومواضع النزاع وموطن الاحتراب في كل مكان من العراق إلى اليمن إلى الصومال إلى أفغانستان وغيرها، ليذهب أولئك الشبان ضحايا في تطاحن لا صلة لهم به، فتزهق أرواحهم بعد أن يزهقوا أرواح الأبرياء!.
إنها الضلالة العمياء، والجهالة الجهلاء، والسفاهة والحماقة والفجور.
من أية (قاعدة) تنطلق هذه الطائفة الضالة غير المنصورة التي أشاعت الدمار والخراب والرعب في كل العالم؟!
ومن أية أخلاق أو قيم إنسانية أو دينية تمتح هذه (القاعدة) وهي تزهق أرواح البشر، وتخفر الذمم، وتقطع الطريق، وتشعل الحريق، وتوقد نيران الحروب في كل مكان؟!.
قبل (القاعدة) كان الإسلام الذي يرتفع شعاره حاضراً في كل مكان من هذا العالم، كان المسجد يقام، والجامع يزدحم بالمصلين، وصوت الخطيب يعلو واليوم لا مسجد يقام، بل لا مئذنة تعلو، فقد جزت سويسرا كل مآذن المساجد في كانتوناتها كلها!.
وبالأمس قبل (القاعدة) كان الدعاة ينتشرون، والطلاب والسياح والمسلم يغدو ويروح إلى كل مكان من هذا العالم، أما اليوم فقد غدا المسلم محل اشتباه مهما بلغ من نقاء ورقي وإنسانية وتحضر. بالأمس كنا ندخل إلى أمريكا دون أن نلقي التحية إلا بصورة عابرة متعجلة على مراقب الجوازات، والحقائب تنتظر في آخر سير التفتيش دون أن تفتح أو تمس بأذى! أما اليوم فإن عوراتنا وبخاصة (مؤخراتنا) أصبحت مرتعاً خصباً للأصابع الكبيرة الغليظة التي لا تمل من الغوص عميقاً في الداخل بحثاً عن كبسولة ضالة مختبئة في المستقيم غير المستقيم!
لم تعد (القاعدة) التي لا تنطلق من (قاعدة) العالم كله إلى مؤخراتنا المسلمة فحسب، بل قادت كل من في قلبه مرض من قبل على هذا العالم المسلم إلى أن ينفس عن مرجله المحتقن على الإسلام والمسلمين باضطهاد كل بقعة عربية أو إسلامية هي موضع نزاع أو موطن قلق!
فأصبح (الذل) يوزع بصورة عادلة على العربي والمسلم في كل مكان بالتساوي ليس بدءاً بسجون إسرائيل التي يقبع في ظلماتها أكثر من أحد عشر ألف سجينة وسجين، وليس انتهاء بسجن أبي غريب وما كان على شاكلته، ولا خاتمة بأقبح بقعة في العالم وأكثرها نأياً وقسوة واستبداداً (جوانتانامو)!.
لكن.. لماذا استرخصنا العالم كله على هذا النحو؟! لماذا أصبح الدم العربي المسلم رخيصاً إلى هذا الحد؟ ولماذا غدت الكرامة العربية والإسلامية مبتذلة إلى مرحلة الغوص العميق بالأصابع في المؤخرات؟ ولماذا الريبة والقلق والشك من كل مسافر عربي أو مسلم، بحيث نتسول (الفيزة) لدخول الجنة الأمريكية أو العربية المحرمة علينا دون أن نمر بجلسات التحقيق المطولة ولقطات التصوير من كل زاوية، وساعات الانتظار الطويلة على أبواب السفارات؟!
هل كان هذا العالم الرافض كل سحناتنا وملامحنا ومخبوءاتنا وما ننطوي عليه من مفهومات متحضرة أو متخلفة، وما نملكه من شرور أو خبائث يفعل فينا كل هذه الأفاعيل قبل (القاعدة)؟!
أية جناية جنتها هذه المدعوة (القاعدة) التي تضم شذاذ الآفاق من كل صوب وحزب على أمتنا؟!
أية جرائم وانتهاكات وغزوات وصبوات جرتها هذه (القاعدة) الآثمة على أمة العرب والمسلمين؟!
طائفة تنعق خارج سرب الحياة، منها فريق لا يملك السلاح ولا العزيمة الشريرة على القتل، فيمارس القتل المعنوي للحياة بأن يقف محرضاً على كره العالم، وكره ثقافاته، ومقت حيواته، وتقبيح منجزاته، والدعوة إلى التصدي لمن خارج هذا القمقم!.
ولئن تصدى فريق من الطائفة غير المنصورة للعالم بالتدمير والخراب والحرق وإشعال وقود الحروب، فإن هذا الفريق المعنوي القاعد عن القتال من القاعدة لهو أشد خطراً وأمضى فتكاً وأكثر محقاً للحياة وللتحضر وللمدنية وللحقوق وللإنتاج ولنهوض الأمة من شقه الحربي المنتضي أدوات تدميره.
طائفة ضالة تشتغل على جبهتين:
- الجبهة الأولى: إغلاق الأبواب والنوافذ، وسد الفضاء أمام التواصل مع العالم.
وهذه الجبهة أشد ضراراً وأمضى سلاحاً، لأنها تمارس الادعاء، وتحترف التقية، وتزيف المقولات، وهي تكوّن منطقها وتنشئ ضلالاتها، وتربي أجيالها تحت مسميات خادعة كاذبة مضلة، أحياناً باسم الدين، وأحياناً باسم الوطنية، وأحياناً بحجة الحفاظ على أخلاق المجتمع.
هذه الجبهة الظاهرة المعلنة هي الشق الواضح السلمي من الفكر الظلامي المغلق الذي لا يتوانى عن بذر بذور الكراهية للمختلف ثقافة أو ديناً أو تقاليد، لأنه (يزعم) أنه الحق وغيره الباطل، وأنه المكلف بحماية الفضيلة وإرشاد الناس إلى طريق الهدى والصلاح والاستقامة.
هذه الجبهة التي يمكن أن نسميها بجبهة التهويش والغوغائية والتصدي عن طريق الإعلام بكل وسائله وتقنياته تمارس مهامها المكلفة بها لإظهار الوجه الحواري اللفظي الشفاهي بديلاً جيداً عن الوجه الدموي المسلح، فكأن التطرف حين أراد أن يقيم باطله في شكل مجتمع حلم منظور جهز لغايته البعيدة وسيلتين (سلمية وحربية) وقد يسبق فعل سلمي فعلاً حربياً أو العكس!.
الجبهة الثانية: هي هذه التي تنتضي السلاح وتطلق البيانات الحربية، وتزرع الرعب في كل مكان.
والعجيب أنه قد مضى أكثر من عقد على إعلان هذه الجبهة العسكرية المختبئة في الجبال والأودية والمغارات وبطون الشقق في الأحياء السكنية المكتظة، ولم تفلح بعد في هد كيان دولة من الدول، وإقامة مجتمع قاعدي آخر بديل!.
أفلحت القاعدة في شيء واحد فقط، وهو زرع السخط والكراهية وسوء التقدير وعقم الفهم للدين الإسلامي الذي تزعم القاعدة أنها تذود عنه، وتذب عن حياضه!.
وأفلحت القاعدة في شيء آخر أيضاً، وهو اجتثاث كل ما هو إسلامي من كل بلدان العالم، فلم يعد للمسلمين مناشط، ولا إذاعات ولا محطات، ولا مجلات، ولا تجمعات، ولم تعد مساجد تبنى ولا تبرعات تقدم، ولا حملات دعوية تستقبل!.
وأفلحت القاعدة في شيء ثالث أيضاً، وهو استسهال إراقة الدماء في (أية) بقعة من هذا الكون، بدءاً من الرياض أو جدة أو الرس أو الخبر وليس انتهاء بنيويورك أو لندن أو أسطنبول أو القاهرة أو الدار البيضاء أو مدرسة الأطفال في روسيا!.
وكل هذه الآثام تنطلق من (قاعدة) الدفاع عن (الإسلام) الذي يرضع لواء الدفاع عنه المصلحون والعقلاء والمفكرون والبناة العظام المحبون لأوطانهم وأهلهم، والمحبون أيضاً لكل قيم الخير والحق والفضيلة والإنسانية في العالم، كما يرفع لواء الدفاع عنه زوراً وبهتاناً وادعاء باطلاً مجرمون وقتلة وقطاع طرق وأعداء للإنسانية والسلام والمحبة والتحضر.
عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية - كلية اللغة العربية
Ksa-7007@hotmail.com