غير خافٍ عند الجمهور أن الصهيونية دين بشري وضعي لخدمة دين اليهود بعد تحريفه وتبديله، وكل ذي دين سيشرف من ديانته ومن ثقافته على حقيقة الدين اليهودي ومعتنقيه.. وأن التلوُّن والثعلبية تربية دينية لهم، وأن دافع الثعلبية العداء للبشرية من عقدة الاصطفاء.. ولا ريب أن الله فضَّل بني إسرائيل عرقاً ومن دان بدينهم في عهدهم من غير عرقهم، وبذلك ورد القرآن الكريم، ولكنه فَضْلُ نعمة غير قارَّة وليس فضل جِبِلَّة وسلوك، وهذه النعم مثل كثرة الرسل عليهم الصلاة والسلام والآيات والملوك.. وكثرة الرسل والآيات دليل على فساد الجِبِلَّة بالعناد؛ فمن كفر بعد هذه النعم صار من أخسِّ البشر، والصهيونية منبعثة (1) من هموم الشتات اليهودي منذ كانوا شُذَّاذ آفاق بعد كيدهم البشرية.. قال المفكر اليهودي جي نوبيرجر الذي أمضى حياته في مكافحة الصهيونية: « كانت الصهيونية منذ بداية عهدها نتيجة للَّاساميَّة، ومنسجمة معها؛ ذلك أن لهما هدفاً مشتركاً هو جمع يهود العالم في الدولة الصهيونية.. أي استئصالهم من المجتمعات التي كانوا يعيشون فيها مئات الأعوام ولربما ألوفها.. وهكذا حلَّ محلَّ ولاء اليهودي لربه ولاؤه للدولة الصهيونية.. أما الإيمان بالتوراة وأداء الالتزامات والواجبات الدينية فهو في نظر الصهيونيين مسألة شخصية وليس واجباً مقدساً على كل يهودي، أو على الشعب اليهودي كمجموع»(2).. ويرى المفكر الإسرائيلي إمنون روبنشتاين أن هناك عامِلَين غذَّيا الصحوةَ القومية اليهودية في نهاية القرن التاسع عشر، هما: الانجذاب نحون صهيون، ورفض الانصهار (3).. إن قلة من اليهود، ومن أولئك الماقتين للسلوك الصهيوني غير راضين عن السلوك الصهيوني وإن كانوا يؤمنون بالغاية، ولكن صوتهم مبحوح، والله حكم على اليهود بالمغضوب عليهم وهم يهود قبل أن يكونوا صهاينة، والصهيونية فلسفة بلا ريب.. ولكن الذي يصل إلى العالم شيئ من الطفح المتدفق؛ لإحكامهم سبل العمل الظلامي، ومن أولئك الماقتين للسلوك الصهيوني اليهودية الأرثوذكسية المتشدِّدة؛ لأن الصهيونية استخدمت الدين بمهانة؛ فهم يُخفون الملابس الصهيونية القذرة والفجَّة تحت ثياب طاهرة ومقدسة؛ ولذلك فإنهم لا يسيرون على هدي تعاليم الدين والشريعة اليهودية الحقة، ويرى هؤلاء اليهود الأرثوذكس المسيحانيون المعادون للصهيونية: أنه كما أن النبي إرميا قد تنبأ بالمكروه لمعاصريه ممن استسلموا لخديعة الأنبياء المزيَّفين فإن ما يحدث في العصر الحديث هو تكرار لتجربة إرميا؛ حيث إن الكثيرين(4) من اليهود انجرفوا وراء أمواج الكلمات وخطب الدعاة والصهاينة الذين يُمثِّلون الأنبياء المزيفين «(5).. وعن عموم هذه الفلسفة قال الدكتور رشاد عبدالله الشامي: « قفزت الصهيونية الدينية قفزة كبيرة إلى الأمام بأفكار الرابي(6) أفراهام إسحاق كوك؛ فتبلورت بفضل أفكاره ولأول مرة فلسفة شاملة للصهيونية الدينية، وعمل هو بنفسه على نشر هذه الأفكار وترجمتها إلى واقع عملي عبر تأسيسه عام 1924م مدرسة « مركاز هرَاف» الدينية التي تعتبر أول مدرسة صهيونية دينية في إسرائيل، والتي تخرَّج فيها الآلاف من دعاة الصهيونية الدينية، وعلى رأسهم زعماء حركة « جوش أيمونيم «(7).
|
قال أبوعبدالرحمن: منذ مطلع النهضة العربية الحديثة والمطابع تغدق بنشر الكتب والمقالات والبحوث والوثائق عن بروتوكولات حكماء صهيون، والماسونية، والمجمَّعات السرية الهدَّامة، والقوى الخفية التي تحكم العالَم، وخطر الصهيونية على البشرية.. وكثر النشر حول هذا في العقدين الأخيرين حتى كاد لا يُحصى كثرة على الرغم من ضعف الصوت العالمي أمام الصوت الصهيوني الخانق، وكان كل ذلك وعْياً قلمياً لا غير؛ لأنه أعمال أفراد من المفكرين، ولم يلق الكيد الصهيوني للبشرية - باستثناء الجهاد العربي الضعيف المشلول لاحتلال اليهود لفلسطين - أي مقاومة جادة على مستوى حكوماتٍ أو مؤسسات ذات قوة أو أي ضغط مؤثر.. وأما الكيد الصهيوني فليس الإعلام القوي سوى الواجهة لترويجه بالتضليل، ولكن عملهم العدواني السلوكي الإكراهي (ودعك من التضليل الإعلامي) هو المسيطر على هذه الكرة الأرضية بقوى المال، وسيادة القانون الوضعي، والتغلغل في العالم باسم الوطنية، ومنظمات الإرهاب التي هي دولة داخل دول.. وكثرة مثقفي العالم - ولا سيما عالَمنا العربي -: لم يأخذوا ذلك الوعي العالمي مأخذ الجدِّ، بل ربطوه بالخرافة والأسطورة؛ فالماسونية والبروتوكولات من جملة الأساطير، واعتقاد صحتها انتكاسة عربية!!.. لماذا؟؛ لأننا نعطي الصهيونية أكبر من حجمها، ولأننا نجلب لأنفسنا الإحباط ما دُمنا نشعر بأننا مقهورون صهيونياً، وأننا غير قادرين على اختراق هذا القهر.. بل كاد يُتَّهم بالرجعية من يتعلَّقُ قلمُه أو لسانه بالقوى الخفية والبروتوكولات والماسونية والمجمَّعات السرية التي يعدُّونها أوهاماً.. وفي هذين العِقدَين تراجع مثقفون عن الإزراء ولاذوا بالصمت، وانبرى آخرون يُعمِّقُون ما يُعَدُّ وَهْماً.. ابتدأ ذلك بالشذرات الطفيفة لدى الدكتور حسن ظاظا رحمه الله - بحكم تخصُّصه في اللغة العبرية -، وبعمق لدى الدكتور عبدالوهاب المسيري في كتاباته الثرية.. ومن الغرْب جارودي، وقفز خطوات من الوعي أنصاف مثقفين رأوا أن ما كان في البروتوكولات أصبح إيعاذاً مُنْجزاً في واقعنا الذي نعيشه؛ فكل إشارة في البروتوكولات أصبح لها واقع عملي ثري يقابلها على الصعيد السياسي والاجتماعي والفني والثقافي والفكري والاقتصادي؛ وهل أعظمُ دلالةٍ على صحة عملٍ ظلامي أوعدت به البروتوكولات من تحوُّل أكبر دولة في العالم إلى قيادة صهيونية تعلن مسؤوليتها أمام الرب ثم أمام التاريخ عن إقامة وحماية دولة صهيونية على أرض عربية مغتصبة، وتعتقد صحة كل ما في اللاهوت اليهودي الوضعي من خرافات وتضليل كالتمهيد لخراب العالم بأحموقة هرمجدون آخر معركة في العالم؟؟!!.. ومن ههنا جاء الطرح القلمي الثري لمخاوف المستقبل كالطروحات عن نهاية التاريخ، وصراع الحضارات.. إلخ.
|
وفي شهر إبريل عام 1988م عقد إسحاق شأمير رئيس وزراء دولة الاحتلال مؤتمراً سماه « المؤتمر المسيحي الصهيوني الدولي»، وتمظْهَر بسحنته القبيحة بمظهر البشاشة والتعاطف مع حماسٍ زائد؛ ليُوهم بأنه يعني أن حماسه من أجل الكتاب الذي بعث الله به رسولهم عيسى عليه السلام لخلاص البشرية، ومرتكز دعوته يقوم على مبدأين بعد أن تم إقناع أهل الكتاب بأن ما في العهد القديم من كفر وظلم ووثنية جزء من الديانة المسيحية يرجع إليه أهل العهد الجديد: المبدأ الأول أن إسرائيل شعب الله المختار، وهذا لابد أن يكون عقيدة مسيحية بعد أن تم إقناعهم بكل سخام العهد القديم.. والمبدأ الثاني أن عودة اليهود إلى فلسطين، وتأسيس الدولة اليهودية مطلب ديني مقدَّس لابد أن يؤمن به الطرفان؛ لأن المسيح عيسى ابن مريم عليه وعلى نبينا محمد، وعلى جميع أنبياء الله ورسله أفضل الصلاة والسلام سيعجِّل بالمجيئ؛ ليحكم العالَم من أورشليم لمدة ألف عام، وكان القس (إكرام لمعي) يتعامل مع بعض حيثيات المؤتمر بحسن نية؛ فيعلن أن الله اختار اليهودَ من أجل إعلان الله الواحد عنهم لباقي الشعوب؛ لكي تكون أمة تخدم العالم، وتصبح نوراً للأمم؛ لأن إسرائيل أول الشعوب التي عرفت الله.. واليوم أصبح معظم شعوب العالم على علاقة مميزة بالله؛ فلم تعد معرفة الله قاصرة على اليهود(8)؛ وإذن فهذه الفكرة عند شعب الله المختار في بند العنصرية القبيحة، وبنى شأمير على هذا المؤتمر دعوة كل مسيحي في العالم لمقاومة الفلسطينيِّين؛ تعجيلاً لمجيئ عيسى بن مريم عليه السلام، وبشَّرهم بعد هذا الاستحواذ الميتافيزيقي المنسوب إلى الدين كذباً بأنه قاوم الفلسطينيين بكل الوسائل.. وفي هذه المسألة أيضاً استاءَ القس إكرام لمعي استياءً مخجلاً من هضم حقوق الإنسان الفلسطيني واضطهاده، ومن قيام آلاف المسيحيين المتدينين بتشجيع الصهيونية على هذا الظلم»(9).
|
قال أبو عبدالرحمن: إذن سيلوذ بالحياء - بعد هذا الواقع الذي نعيشه - من كان يعتقد أن البروتوكولات وأخواتها خرافة، و أما أن هذا الاعتقاد الصحيح يعطي الصهيونية - أو إسرائيل على الأقل - أكبر من حجمها فلا أستبعد أن مصدر هذه المقولة هو مصدر البروتوكولات نفسها.. والذي أعتقده أن حجم الصهيونية (بالنسبة لقدرتنا العربية، ودَعْك من القدرة العالمية) فوق ما نتصور، ولو فُرض جدلاً - وهو فرض غير صحيح - أن الصهيونية دون ذلك فليس من الحكمة الغفلة عن مصدر الخطر وإن كانت قوى الخطر هيِّنة في رؤيتنا؛ فالصغير يكبر.. وأما أن ارتفاع شعورنا بالخطر الصهيوني إلى العلم المحقق يجلب لنا إحباطاً فذلك تخذيل آخر؛ وإنما الإحباط أن يُؤخذ المسلم على غِرة.. وما عُهِد في الخبرة البشرية قط أن مواجهة أي خطر تسبق الوعي العلميَّ المحقَّق به، والمسلم عنده ضمانة شرعية أنه لن يُستأصل من عدوٍّ ما؛ وإنما خُوِّف المسلمون من أن يكون بأسهم بينهم؛ إذن الوعي بالقهر الصهيوني يمنحنا قوة لا إحباطاً؛ لتعمل الأجيال من الآن على ترميم صدوعها فلا يكون بأسها بينها، ولتستعد للعمل على إيصال صوتها إلى الأمم الأخرى بكل سبيل على مستوى الفرد ذي اللغة الثانية في رحلاته، وعلى مستوى الإعلام العربي والإسلامي، وعلى مستوى التقوية لدور النشر والترجمة إلى اللغات الحيَّة، وأن نبدأ المسيرة في إعداد القوة حسب قدرتنا مهما كانت ضئيلة؛ فهذا هو المطلوب من المسلم قَلَماً وسلوكاً، ثم على الله إتمام المسيرة؛ لأن الله إنما وعدنا إتمام المسيرة؛ ومن هذا المنطلق كان اهتمامي بهذه المسألة وإن كان صوتي قد لا يسمعه إلا شريحة قليلة من مجتمعي الذي أعيش فيه؛ لأن هذا أقصى ماأقدر عليه.. ولعلِّي لا آتي بمعلومة جديدة إلا بمقدار ما ينتفع به المتلقِّي من وعد الباحث الجادِّ بالتقصِّي، ولكن الذي أستطيع أن أضيفه إلى جهد غيري المشاركةُ الفكرية، والمشاركة بمقدار ما يطمح إليه من يعاني أحد التأليفات السبعة النافعة(10).
|
وليست الصهيونية وليدة قرن أو قرنين، وإنما هي وليدة دين وضعي عدواني ينيف على خمسة وعشرين قرناً.. وضَعَهُ مَن غَضِبَ الله عليهم، وحادُّوا الله، وحرَّفوا دين الله، وقتلوا بعض الأنبياء.. وإذا أردنا أن نقصر المدة إلى عشرين قرناً فإننا نعيش نقلةً تاريخية عن الكيد اليهودي قبل وجود فكرة الصهيونية العالمية؛ فلنتذكر أمثال شاؤول المكرِّز(11) وجنايته على الدين الذي جاء به عيسى عليه السلام وعلى الأمة التي أُرسل إليها، ولنتذكر ابنَ سبإٍ ودوره في تمزيق المسلمين مذاهب، وليسوا يتقاعسون عن الكيد وإن ضعف صوتهم أو قلَّ تدبيرهم(12)، وما رفعوا رؤوسهم الذليلة في كل عصر ومصر إلا بحبل من الله وحبل من الناس.. إلا أن مكائدهم على مدار التاريخ مهما عظمت نفخات في رمادٍ بالنسبة إلى مكايدهم اليوم؛ فحبلُهم من الناس حبل الحلفاء، وشوكتهم العلم والاختراع والتخصص في المال والاقتصاد والربا والجنس والقانون والمحاماة والجاسوسية والإعلام والفلسفة وصنع المذاهب والنظريات.. ستجدهم يتسربون من عيوننا في لعبة سيرك، وعلبة عقاقير لدى حكيم، وبيت شعر، ونظرية يتحذلق بها مدرس مادة في اللغة أو الأدب أو التاريخ، ثم بعد ذلك زَخَم الفلسفات والأديان والعلوم.. وأهل الكتاب الذين نجد في ديننا مدح أحلامهم ورِقَّة قلوبهم قد تحجَّرُوا عن المعهود؛ لأن أعداء البشرية الصهاينة سرقوا منهم دينهم ودولهم وعلَّموهم الظلم وقسوة القلوب.. إن العامِّيَّ اليوم - ودَعْكَ من خاصة المؤرخين والمفكرين - مثبت بقواطع التوثيق أن هناك منظمات سرية أبرزها المنظمات اليهودية التي تبلورت في منظمات الصهيونية السياسية، وهي المنظمات الكثيرة ذوات الميادين والأغراض المختلفة وسيعايش هذه المنظمات في شرقنا العربي والإسلامي عامة اليهود.. أما العقول العلمية من اليهود فموطنها بلدان العالم المتقدمة في أوربا وأمريكا؛ لأن لهم السبق في الاختراع والاكتشاف والفلسفات وفقاً لهذه الاهتمامات الصهيونية:
|
أ- وجوب أداء عمل يحقِّق عقيدة يؤمنون بها في دينهم، وهي أنَّ الفساد سيعمُّ العالَم تصوُّراً وسلوكاً ونظاماً وحكومةً، وأنه يظهر آخر الزمان المسيحُ المنتظر فيحكم العالم بديانة يهودية لا يؤدِّيها إلا أهلها، وبقية العالم (الجوييم) همجٌ عبيدٌ لليهود.. وهم يؤمنون بقرب نهاية العالم لِمُضيِّ القرون التي أحصوها باجتهادهم، ولم تظهر بوادر خراب العالم الذي وُعِدوا به؛ فقالوا: لن يحقق الربُّ وعدَه ونحن قاعدون؛ فلابد من سعينا نحن أنفسنا في إفساد العالم؛ ليسرع مجيئ المسيا؛ فكان سلوكهم المنبعث عن عقيدتهم الأمرَ بالمنكر، والنهيَ عن المعروف بعكس سلوك أهل الأديان الإلهية.. وكانت عقيدتهم أن لا يَدْعُوا الناسَ إلى اليهودية ويبشروا بها؛ لأن اعتناق اليهودية عندهم صلاح، فإذا صلح العالم لم يتحقق الوعد بحكومة يهودية عالمية تحكم عالماً فاسداً.
|
ب - لم يعبأوا بالوثنيين تصوُّراً وسلوكاً؛ لأسباب أسلفتها.
|
ج - كثرة أهل الكتاب الآخرين عدداً وعُدَّة كما أسلفت أيضاً.
|
د - السعي الحثيث في امتلاك المقومات التي تحكم الأفراد والمجتمعات بالترغيب والترهيب، وتنتج ضغوطاً كونية خفية المصدر تتحكم في العالم.
|
هـ- التحالف مع أهل الكتاب فكرياً وسياسياً على المسلمين بصدِّهم عن دينهم بمختلف حيل التضليل والتسويل، وزرع العملاء بينهم، وإعداد قيادات تحكمهم باسم شعارات تبنَّتها الغوغائية.
|
و- عدم الاهتمام بمقدرات شرقنا العربي الإسلامي بعد انضواء العالم الأقوى خلف العَجَلة الصهيونية، ولا ريب يقيناً أن المستقبل بحول الله للمشروع الإسلامي؛ لأن الشعوب العربية والإسلامية المغلوبة على إرادتها تريد ذلك، لكن التيارات الإسلامية المتصارعة مع نفسها ومع غيرها لن تحقق طموح المسلمين إلا بعد انتقاء يستبعد الانفعالية ومكابرة الواقع وانتقام الصبية وخُرافية الانتماء؛ فإن أصحاب الدعوة الأولى حال الضَّعف بمكة المكرَّمة والقوة بالمدينة المنوَّرة لم يكونوا قُطَّاع طرق ولا غدَّارين ولا إرهابيين.. ولابد أيضاً من سلفية يصح فيها التصور فيستقيم السلوك، ولن تُحقِّق أيضاً مآرب المسلمين إلا بالتحزُّب لمجتمع سلفي لم يختلَّ نظامه السلفي عقيدةً وسلوكاً.. أي أن له ممارسة تاريخية في الحكم.
|
قال أبوعبدالرحمن: وإذا كنت أنحيت باللائمة على ظاهرة غير محمودة في أمتنا وفي المنتسبين إليها كذباً وزوراً من الجنوح إلى فك رموز النبوءات الخرافية فإنني أستثني أمرين:
|
أولهما: ما تحقَّقنا أنه إنباء لا نبوءة بدأت بأقاصيص تافهة للروائي اليهودي (فرانز كافكا) وتبلورت في سلوك وتصريح أهل النفوذ مثل كارتر وريغان وبوش الابن من تبني شعوذة هرمجدون مع ما نعانيه من السلوك الواقعي على أرضنا وفي مُقدَّراتنا؛ فمن صدَّ عن ذلك فالنعامة التي تدفن رأسها في الرمل أحسن حالاً منه؛ لأنه لن يجد على أرض الواقع رملاً يدفن فيه رأسه.
|
وثانيهما: أخبار ديننا المعصوم التي صحت دلالة وثبوتاً؛ فقد ذكرت أحداثاً كونية غير سارَّة، وذكرت مجتمعاً إسلامياً غير سارٍّ، ثم أنبأت بالعاقبة الحميدة، وأكتفي ههنا بظاهرة (الهرج) وهو كثرة القتل في آخر الزمان، فقد صحَّ بذلك الخبر الشرعي، وضحايا هذا العصر بالملايين لا بالعشرات، وإليكم هذا النص الاستقرائي العجيب للعلامة إيمانويل تود.. قال: «تتوالى بوتيرة متسارعة مذابح الأفراد والشعوب في أفريقيا: القتل الجماعي في رواندا، المواجهات الدينية في نجيريا وساحل العاج، المواجهات المسلحة بين فصائل الصومال، الحرب الأهلية الفظيعة في سيراليون، انتشار الجريمة والاغتصاب في جنوب أفريقيا بالرغم من أنها تحرَّرت من نظام الفصل العنصري، اغتيال المزارعين البيض في زيمبابوي.. وإرهاب جماعي في الجزائر، وليست حال آسيا أفضل؛ فجثث القتلى تملأ أرجاء القارة الصفراء، وتسود النزاعات بين دولها: ثورة إسلامية في إيران ولو أنها خلدت إلى الهدوء هذه الأيام، نزاع في الشيشان، فوضى في جورجيا، حرب بين أرمينيا وأذربيجان حول ملكية إقليم كاراباخ، مطالبات بالحكم الذاتي من قبل الأكراد في تركيا والعراق، حرب أهلية في طاجكستان، اعتداءات كشميرية في الهند، ثورة طائفة التاميل في سيرلانكا، مواجهات بين الهندوس والمسلمين في كوجارات بالهند، حرب عصابات يشنُّها المسلمون في جنوب الفلبين، نشاط إسلامي متطرف في شمال سومطرا بأندونيسيا، مذابح ضد المسيحيين في تيمور الشرقية تنفذها القوات الخاصة الأندونيسية، نظام طالبان المضحك في أفغانستان، الحرب الأمريكية المفتوحة ضد تنظيم القاعدة والإرهاب.. والحرب الأميريكية الأخرى ضد العراق، أما أميركا اللاتينية فتشهد حالة من الاستقرار والهدوء النسبيين بالرغم من عملية احتجاز الرهائن من جانب اليساريين وثورة الرائد ماركوس.. ولم تسلم أوربا من صور العنف والكراهية المقيتة، فشهدت القارة العجوز تفكك يوغوسلافيا والمذابح ضد الكروات ومسلمي البوسنة والصرب وأهالي كوسوفو؛ مما يعطي الانطباع بأن العنف قادم لينتشر كالمد في عالمنا الهادئ الغني القديم.. وينبغي ألَّا نُغفل ذكر قمع النظام الصيني لمظاهرات الطلاب في ساحة تيانمين عام 1989م، كما علينا ألا ننسى أيضاً ذكر قمة اللاعقلانية البشرية المتمثلة بالمواجهة الإسرائيلية الفلسطينية، وننتهي بذكر انهيار برجَي مركز التجارة العالمي الذي نُفِّذ باسم الله من قبل انتحاريين جاءوا من العالم الثالث لينتقموا من أحد أبرز رموز الهيمنة الاقتصادية الأميريكية.. تحيلنا مشاهد القتل المنتشرة في كل مكان تقريباً من العالم أمام صورة قاتمة: إن العالم يمر بحالة من الهذيان والجنون، وليس الغرب جزيرة محمية من هذه الأحداث، ولا يمكن أن يكون كذلك، وربما بدأت ملامح هذا الجنون الذي يسود العالم تتسلل لتهدِّد استقرار هذا الغرب نفسه، وتحديداً فرنسا، وليس حرق السيارات في ضواحي المدن والهجمات على دور العبادة اليهودية في فرنسا في ربيع 2002م وصعود جان ماري لوبان إلى الجولة الثانية للانتخابات الرئاسية الأخيرة في فرنسا إلَّا طلائع تُنذر بتحول الغرب إلى الهمجية»(13).
|
* من جانب غير المسلمين بعدة قضايا بديهية: الإرهاب كأن غالبية المسلمين إرهابيون، أو كأن الإرهابيين مسلمون - ودرجة العدوانية الموجودة في العالم المسلم ومسؤولية المسلمين عن ذلك، واستعداد المسلمين للسماح بالتنوع والمناظرة واحترام حقوق الإنسان(14).. وليس الإعلام الذي يبحث عن الإثارة وحده الذي يكرِّس مثل هذا التمثيل الخاطئ، بل يشترك معه كُتَّاب عيونهم مفتوحة على الهواجس الراهنة للرأي العام القارئ، مثل (في. أس. نايبول) الذي أيَّد عام 1994م تدمير مسجد أيوديا، وصموئيل هانتنغتون.. التبسيط الإسلامي ذاته ذو وجهين: من جهة تنميط الغرب، ومن جهة هوية واحدة للمسلمين كافة، وتفسير واحد للنص والثقافة»(15).
|
قال أبوعبدالرحمن: الأمور غير الطبيعية لا تعيش في كون الله السَّوِيِّ كثيراً؛ فخنق الرأي العام من الملايين بحفنة من الصهيونية ذات نفوذ أمر غير طبيعي، وقيام إسرائيل دولة عسكرية بحتة على أرض الآخرين بدعم عالمي وشراكة أمريكية بحتة أمر غير طبيعي، وشعور أي زعيم أمريكي (وإن كان تحت النفوذ الصهيوني) أن كبرياءه تُجرح كل يوم بتهديد دولة هي ترسانة أسلحة وقوى نووية في الشرق أمر غير طبيعي؛ لأنه ينافي مفهوم « دولة عظمى «.. وجرح كبرياء أي زعيم أمريكي بنفوذ أقلية داخل الولايات المتحدة أمر غير طبيعي؛ لأنه عكس مفهوم «دولة عظمى»، ولأنه يسرع بالغيرة على الأمة الأمريكية أن تكون بلد علم مادي، ووريثة حريات أربع تدعو إلى العدل؛ ثم تُغيَّب بحفنة!!.. إن الانتفاضة الأمريكية والأوربية على هذا التغطرس الصهيوني وظلمه الأرعن أمر مرتقب في كل لحظة، وهو أمر لا مفر منه.. وهو إدلال ودلال صهيوني ليس وليد ساعته؛ فعندما تعهَّد أيزنهاور بمساعدة الولايات المتحدة لأية دولة في الشرق الأوسط تُهدِّدُها الشيوعية الدولية: قال رئيس وزراء إسرائيل ديفيد بن غوريون بدلالِ طفلٍ: «لا.. إن هذا قد يؤدي إلى دعم أمريكا لدول معادية لإسرائيل»!!(16).
|
وندِّيَّة إسرائيل ليست وقفاً على دولتها النووية في الشرق، ونفوذ القلة الصهيونية في الولايات المتحدة، بل هي قادرة على خنق الدولة العظمى اقتصادياً، وقادرة على تفكيكها إقليمياً، ولكن الدلائل تدل على أن هَبَّة الولايات المتحدة ستسبق هذا الكيد الصهيوني على الرغم من أن هذا التمزق الأمريكي العسكري على وجه المعمورة بداية كيد صهيوني لخنقٍ اقتصادي، وتفريق طاقة.
|
|
أبوعبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
|
|
(1) قال أبوعبدالرحمن: بعض الناس يُعبِّر بكلمة (منبثقة)، ومنبثق، والانبثاق .. واستعمال ذلك في أمور قبيحة أو عدوانية خلاف البلاغة؛ لأن الانبثاق للنور ولكل حق وخير وجمال.
|
(2) القوى الدينية في إسرائيل ص20 .. قال أبوعبدالرحمن: الصواب الشعب اليهودي جميعاً، وكاف التشبيه عند إرادة الوصف المطابق لحن قبيح تفشَّى في أقوال المعاصرين .. واليهودي المعادي للصهيونية أقلُّ خبثاً، ولكنه يظل عدوانيَّ الطبع؛ لأن مصادر دينه المحرفة ولاهوته الطبيعي المصنوع مشحون باستبطان الشر، والحثِّ على العدوان .
|
|
(4) قال أبوعبدالرحمن: الأفصح (كثيراً)؛ إذْ هذا هو المسموع، وهو لغة القرآن الكريم، والتعليل مفهوم من الجملة لا من دلالة (حيث) .
|
|
|
|
(8) قال أبوعبدالرحمن: اقتنع القس أن اليهود أول الشعوب التي عرفت الله؛ وإنما اعترض على احتكارهم هذه الفضيلة الآن؛ فأين ذهب عقله عن الأنبياء والرسل عليهم السلام قبل اليهودية، وأن الوحدانية مع القلة من قوم موسى عليه السلام، وأن عهدهم القديم ولاهوتهم الطبيعي مليئ بالوثنية؟.
|
(9) الاختراق الصهيوني للمسيحية/ دار الشروق/ الطبعة الثانية 1413هـ، ص135 .
|
(10) قال أبوعبدالرحمن: ذكرها الإمام أبومحمد ابن حزم رحمه الله تعالى في أكثر من موضع من كتبه كالمفاضلة بين الأندلس والقيروان، وقال في كتاب التقريب في المنطق - ضمن رسائل ابن حزم- 4/103-104 : «إما شيئ لم يسبق إلى استخراجه فيستخرجه، وإما شيئ ناقص فيُتمِّمه؛ وإما شيئ مخطأ فيصحِّحه، وإما شيئ مستغلَق فيشرحه، وإما شيئ طويل فيختصره دون أن يحذف منه شيئاً يُخِلُّ حذفه إياه بغرضه، وإما شيئ مفترق فيجمعه، وإما شيئ منثور فيرتبه.. ثم المؤلفون يتفاضلون فيما عانوه من تواليفهم مما ذكرنا على قدر استيعابهم ما قصدوا، أو تقصير بعضهم عن بعض .. ولكلٍّ قسطٌ من الإحسان والفضل والشكر والأجر (وإن لم يتكلم إلا في مسألة واحدة إذا لم يخرج عن الأنواع التي ذكرنا في أي علم ألف).. وأما مَنْ أخذ تأليف غيره فأعاده على وجهه، أو قدَّم وأخَّر دون تحسين رتبةٍ، أو بدَّل ألفاظه دون أن يأتي بأبسط منها وأبين، أو حذف مما يُحتاج إليه، أو أتى بما لا يحتاج إليه، أو نقض صواباً بخطإ، أو أتى بما لا فائدة فيه: فإنما هذه أفعال أهل الجهل والغفلة، أو أهل القِّحة والسَّخف « .
|
(11) قال أبوعبدالرحمن: هو بولس لُقِّب بالمكرِّز؛ لأنه عند الوعظ يضرب بطرف أصبعه السبابة في الصدر؛ ليصغي الناس إليه، وهو من الذين حرَّفوا الإنجيل، وزادوا فيه كذباً، وترجمته مظلمة في كتاب الموسوعة النقدية للفلسفة اليهودية للدكتور عبدالمنعم الحفني ص74-77، وقال الإمام
|
أبومحمد ابن حزم رحمه الله تعالى في الفِصَل 2/17: إنه من المختفين المستترين المتظاهرين بدين اليهود من التزام السبت وغيره طِوال حياته إلى أن ظُفر به فقُتل .. وانظر عنه كتاب الحوادث ص476-477 بتحقيق الدكتورين: بشَّار عواد معروف، وعماد عبدالسلام رؤوف .. وهو لمؤلف مجهول، وقد نسب في الطبعة القديمة لابن الفوطي، وانظر نفي نسبته إليه بالطبعة الثانية المذكورة آنفاً ص7-10 .
|
(12) قال أبوعبدالرحمن: تجد لهم أعلاماً يرفعون أصواتهم أحياناً كابن النغريلة الذي ادَّعى تناقض القرآن وردَّ عليه الإمام ابن حزم، ومنهم من يخفض صوته ويحتمي وراء خدمة دينه ولا يتظاهر بما يلفت النظر حوله؛ ومن الطبيعي سيكون إنتاجه تضليلياً، ومن هؤلاء ابن ميمون وابن كمونة صاحب تنقيح الأبحاث عن الملل الثلاث.. وهناك يهود تفليس الذين ذكر ابن الفوطي سعيهم في تغيير أحكام الشريعة؛ إذْ رتَّبوا ولاة على تركات المسلمين يجرون النظام على أن لا يرث ذوو الأرحام كما في الحوادث ص492 .. ولأبي إسحاق الإلبيري رحمه الله قصيدة بديوانه ص96-100 يُحرِّض فيها صنهاجة؛ للتخلص من اليهود، وتَنفُّذِهم في شؤون المسلمين، ومنها:
|
وإني احتللتُ بغرناطةٍ |
فكنتُ أراهم بها عابثين |
وقد قسَّموها وأعمالها |
فمنهمْ بكلِّ مكانٍ لعين |
وهم يقبضون جباياتِها |
وهم يخصمون وهم يقسمون |
وهم يلبسون رفيع الكسا |
وأنتم لأوضاعها لابسون |
وهم أمناكم على سرِّكم |
فكيف يكون أميناً خؤون |
|
(13) ما بعد الإمبراطورية/ دراسة في تفكك النظام الأمريكي ص47-48 .
|
(14) قال أبوعبدالرحمن: هذا كلام متلعثم ناقص صوابه: «وكأن درجة العدوانية موجودة « و»موجودة مسؤولية المسلمين - « و « الواقع استعداد».
|
(15) ساعتان هزَّتا العالم/ 11 أيلول - سبتمبر 2001م/ الأسباب والنتائج لفريد هاليداي بترجمة عبدالإله النعمي ص63 .
|
(16) من يجرؤ على الكلام ص450 .
|
|