اشتهر المسلمون بمثاليتهم المفرطة في موقفهم من الخطأ البشري، فقد كانت أقوالهم ولاتزال تمثل البحث عن تلك المثالية التي نزل بها الوحي، مما جعل من مهمتهم في إصلاح شؤون دنياهم غير ممكنة في ظل الطوباوية التي يرددون أقوالها وأثرها في خطبهم ووعظهم ورسائلهم، وكانوا كثيراً ما يعانون الأمرين في كيفية الوصول إلى الواقعية وإلى تقدير استنباط القوانين الطبيعية التي تحكم الاقتصاد والمعرفة الإنسانية بمختلف اتجاهاتها..
كان السبب الأهم في تاريخ سقوط الحضارة العربية هو وقوفهم المبكر ضد الفكر الإنساني بعد فترة المأمون الذهبية، وذلك بسبب مثاليتهم المفرطة وموقفهم السلبي ضد قصور العقل وأخطائه، والذي تم قبول الخطأ منه فقط في الاجتهاد الشرعي، أما نواحي الحياة وفلسفاتها فقد كان الموقف عنيفاً، وهو ما أدى لاحقاً إلى منع الترجمة وإغلاق المكاتب واختصار العلم في العلوم الشرعية.
الإنسان ولد ليخطئ مرات ومرات ثم يتعلم من أخطائه، وهذا ينطبق على الحياة بكل مراحلها، لذلك كانت الحضارة الإنسانية تعتبر الخطأ جزءا رئيسياً من مسيرة التطور الإنساني، بينما كان الموقف الشديد من الخطأ البشري في الحضارة الإسلامية أحد أسباب تدهور حضارتهم الإنسانية، فقد كان العقل بمثابة المراهق الذي يجب أن تُكبح جماحه وأن يحد من عنفوانه..، وإذا استدعى الأمر يستأصل أو تُدفن أفكاره.
بينما أبدعت الحضارة الإنكلوساكسونية في البحث بالمجهر على سطح الأرض من أجل استخراج قوانينها الطبيعية والاجتماعية والاقتصادية والاستفادة منها في إثراء هيمنتهم الحضارية، وكانت نتيجة ذلك الاهتمام الخالص بإبداعات العقل البشري أن سيطروا على الكرة الأرضية لقرون، وما زالوا، وكثيراً ما يلفت انتباهنا كثيراً من مقولاتهم الجريئة، والتي أصبحنا نرددها كنص أحياناً في غير محلها، ويعود السبب في ذلك إلى مناعة العقل العربي عن الإبداع، فالآلية النقلية لا تزال تهيمن بجمودها التاريخي على العقل عند العرب.
نردد دائماً على سبيل المثال مقولة البضاعة الرديئة تطرد البضاعة الجيدة، وقد تم تحوير ثم استغلال هذه المقولة في عالم العرب في غير محلها، وفي تبرير انهيار الجودة في مجالات الحياة، وذلك يخالف الواقع، فالبضاعة الجيدة لا يمكن أن تخسر أمام البضاعة الرديئة....، كانت هذه المقولة الشهيرة قانون اقتصادي استنبطه عالم من يوميات الحياة الاقتصادية، أطلق عليه قانون جريشام، وارتبط نصه بالسير توماس جريشام (1519 - 1579)، وهو تاجر وخبير مالي إنجليزي أسّس البورصة الملكية في لندن، قام بإرساء المبدأ الاقتصادي المعروف باسم قانون جريشام، والذي ينصّ على أن العملة الرديئة تطرد العملة الطيبة. وبهذا القول يعني جريشام أنه إذا كان لقطعتي نقد معدنيتين نفس القوة الشرائية لكن لهما قيمتين مختلفتين بوصفهما معدنًا فإن الناس سوف يكتنزون القطعة النقدية الأثمن تاركين القطعة الأقل قيمة قيد التداول.
كان العلامة المؤرخ أحمد بن علي المقريزي الذي توفي عام 1441م في القاهرة، وولد في بعلبك في الشام، وعاش 77 عاماً، مهتماً بالمشكلات الاقتصادية والنقدية، وكتب عن العلاقة بين الأسعار وكمية النقود المتداولة في السوق من خلال دورها في تحديد المستوى العام للأثمان، وأضاف أنه في الأزمات الاقتصادية تخرج النقود المعدنية النفيسة (الذهب والفضة) من التعامل تاركة المجال للنقود النحاسية في التعامل، وهو بعبارة أخرى قريب مما وصل إليه جريشام.
المقريزي هو صاحب المقولة الشهيرة: (الأمور كلها, قلها وجلها، إذا عرفت أسبابها سهل على الخبير إصلاحها).. وأيضا: (فالمجاعات وأمثالها، ليست شيئاً مفروضاً على الإنسان من عل، ينزل بأمر، ويرتفع بأمر، كما أنها ليست ناجمة عن جهل الطبيعة وعماها، دون أن يكون للإنسان بها دور بل هي ظاهرات مادية اجتماعية، لم تلازم البشر دائماً، ولكنها تقع آناً، وتنقطع آناً آخر، تقع عندما تجتمع أسبابها ودواعيها، وتنقطع عندما تنتهي تلك المسببات والدواعي)..
ولد جريشام في لندن، ودرس بجامعة كمبردج، وأصبح عضوًا في شركة مرسيدس في لندن، وجمع ثروة عظيمة. بين عامي 1559 و1561م كان سفير إنجلترا لدى هولندا، ومنحته الملكة إليزابيث الأولى لقب فارس تقديرًا لخدماته الجليلة، وبقيت أعماله خالدة من خلال إخضاعها للتطبيق الإنساني، بينما توفي العالم الشهير المقريزي، ودفنت معه أفكاره، ولم يتم تداولها في الحضارة الإسلامية، لكنها احتفظت بجودتها، وعادت بالمقريزي إلى الواجهة بعد أن تم إعادة الاعتبار لها خارج الأقاليم الإسلامية كدليل على أن الجيد في مختلف مجالات الحياة يطرد الرديء خارج تاريخ الإبداع الإنساني وإن تباعدت الأزمنة.