قد يتبادر إلى ذهن أي مهتم بالهمّ الإسلامي العام أو الشأن الباكستاني تحديداً سؤال : كيف دخلت باكستان دوامة العنف الدموي ؟ من واقع التفجيرات الإرهابية المتتابعة التي صارت تضرب في أي مكان من هذا البلد العزيز على قلب كل مسلم..
.. خاصة ً أنه يُعد من قوى التوازن الآسيوي، وإحدى دعائم الاستقرار القاري، فضلاً عن دوره المحوري في نسيج الوحدة الإسلامية، وهو سؤال صعب الإجابة نوعاً ما وإن بدت ملامحها واضحة في المشهد السياسي الباكستاني، ومكمن الصعوبة يظهر في تعدد الأطراف الداخلة في قضايا هذا البلد، وتداخلها مع التعقيدات السياسية طبقاً لمواقع تلك الأطراف العالمية ومصالحها القومية وطبيعة أيديولوجيتها، غير أن الخيط الذي يمكن أن يقود إلى تلك الإجابة المنشودة يتمحور في (التفجيرات الإرهابية الدامية) ذاتها التي تقع في بعض أنحاء باكستان، من حيث طبيعة نمطها.
فلقد تحولت من تفجيرات (طائفية أو مذهبية) كالتي كانت تقع في كراتشي خلال فترات سابقة بين بعض الغلاة من السنة أو الشيعة، إلى تفجيرات (إرهابية سياسية) تقوم بها جماعات دينية تتقاطع مصالحها مع حركة (الطالبان) في أفغانستان، ولعل أبرز تلك الجماعات التي وجهت لها الحكومة الباكستانية الاتهام المباشر بارتكاب تلك الجرائم الإرهابية هو ما يعرف بحركة (طالبان الباكستانية) و(تنظيم القاعدة)، خاصةً هذه الحركة التي تتخذ من منطقة القبائل في وزير ستان المتاخمة لأفغانستان منطلقاً لعملياتها ومقراً لأفرادها بزعامة حكيم الله محسود، وهذا يعني أن جراح باكستان من تلك التفجيرات تضاعفت وصارت تهدد الوحدة الوطنية والأمن العام بشكل خطير، ما قد يؤدي إلى حرب أهلية لا قدر الله.
وبالنظر إلى أطراف هذا الواقع المؤلم مع العودة إلى خلفياته التاريخية غير البعيدة، نجد أن الإشكال بدأ في أفغانستان وارتد سلباً على باكستان بعد تحرير أفغانستان من الاحتلال السوفيتي عام 1988م، ومن ثم دخول ما تسمى فصائل المجاهدين في (حرب رفقاء السلاح) واقتتالهم على كعكة السلطة بعد سيطرتهم على كابل عام 1992م، ومن ثم دخول (حركة طالبان) ذات الامتداد الديني في باكستان على خط الأزمة عام 1996م، وقيامها بالسيطرة شبه التامة على أفغانستان التي تحققت لها عام 1999م ما عدا رقعة في الشمال الأفغاني ظلت تحت سيطرة قوات (تحالف الشمال) المناهضة لها، تزامن مع ذلك نشأة ما يُعرف ب(تنظيم القاعدة) من بذرة ما يسمى (المجاهدين العرب).
وبعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001م انطلقت حرب الولايات المتحدة الأميركية على ما يعرف ب(بالإرهاب الدولي)، وكانت أفغانستان أول الأهداف المقررة في طريق (الثور الأميركي الهائج)، وهنا وقعت باكستان التي كانت الملاذ والسند لأفغانستان في (موقف مصيري) بين التحالف مع أميركا في حربها المعلنة، أو لزوم الحياد وتحمل عواقبه، ولأن الجنرال برويز مشرف الذي أطاح بحكومة نواز شريف عام 1999م سبق أن أكد ضرورة أن تحكم أفغانستان حكومة موسعة تمثل كل الطوائف والإثنيات، فقد شكل ذلك إعلاناً غير مباشر برفض حكومة طالبان والتخلي عنها من جهة، ومن جهةٍ أخرى إعلاناً مباشراً لموقفه المتحالف مع الأميركيين في حربهم، خصوصاً أن باكستان ستحصل على مساعدات مالية من الولايات المتحدة ودول غربية حليفة لها، وإلغاء بعض الديون المستحقة عليها، ورفع الحظر الاقتصادي الذي فرضته الولايات المتحدة على باكستان عام 1998م بعد إجراء تجارب برنامجها النووي، وبذلك تكون باكستان قد طوت صفحة (طالبان) أفغانستان التي مثلت مرحلة زمنية معينة، فكانت الحملة الأميركية ضد هذه الحركة في نوفمبر 2001م، ومن ثم سقوط نظامها، وقيام حكومة أفغانية موالية للغرب وأميركا تحديداً.
غير أن الإشكال الذي عانته باكستان وتسبب في دخولها دوامة العنف الدموي بدأ فعلياً مع تحول الاهتمام الأميركي من باكستان إلى أفغانستان، سواءً لمصالح عسكرية بقواعد أميركية ترقب الجار الصيني، أو اقتصادية بتنفيذ مشروع شركة (يونيكل) الأميركية لمد خط أنابيب نقل الغاز الطبيعي من تركمانستان عبر الأراضي الأفغانية إلى باكستان ثم دول أخرى، وهو المشروع الذي رفضته (طالبان) عام 1999م بسبب جهلها الاقتصادي وضعف درايتها السياسية. هذا (التحول الأميركي) يُعيد إلى الأذهان ما فعلته الإدارة الأميركية مع باكستان في الخمسينيات والستينيات الميلادية من القرن الماضي، فرغم اتفاقية التعاون العسكري عام 1959م بينهما آنذاك، إلا أن الأخيرة لم تتدخل لصالح باكستان في حربها مع الهند عام 1965م مكتفية ً بمنع السلاح عن البلدين، وجعلت طريق التسوية عن طريق الأمم المتحدة، بينما قامت بتقديم مساعدات للهند في خلافها الحدودي مع الصين عام 1962م.
وواقع الأمر في الإشكال الذي تعانيه باكستان اليوم المرتبط بتحالفها مع أميركا في حربها ضد ما يسمى (الإرهاب الدولي)، انطوى على امتداد عميق في نسيجها الاجتماعي يهدد وحدتها الوطنية، فالحرب الدائرة في أفغانستان بين القوات الأميركية والتحالف الدولي وعناصر (طالبان) انعكست سلباً على باكستان بنشوء ما تعرف بحركة (طالبان باكستان) التي تتشكل من 13 فصيلاً، واتخذت من جنوب وزير ستان على الحدود المحاذية لأفغانستان مقرا لها، وينتمي معظم مقاتليها من (البشتون) وهو نفس العرق الذي ينتمي له عناصر (طالبان أفغانستان) بل إن مقاتلي (طالبان باكستان) يدينون بالولاء للملا عمر زعيم (طالبان الأفغانية)،، فضلاً عن تحالف هذه الحركة الباكستانية مع (تنظيم القاعدة) الذي يقوم منهجه الدموي على (التكفير والتفجير) واسترخاص الدماء في سبيل تحقيق غاياته، لذا بدأت أعمالها الدموية وتفجيراتها الإرهابية ضد الجيش الباكستاني عام 2007م بذريعة أنه يساند الولايات المتحدة الأميركية في حربها بأفغانستان، حتى وقعت تفجيرات مروعة رغم أن هذه الحركة لم تعلن مسئوليتها عنها، كالتي وقعت مخلفة ً 71 قتيلاً، في شرق باكستان قرب مبنى تابع للجيش، وفي سوق بلاهور، وعند مدخل محكمة بيشاور، بل إن بيوت الله لم تسلم من هذا الإجرام فلقد وقع انفجار انتحاري أمام مسجد يؤمه الكثير من ضباط الشرطة في شمال غرب باكستان، وهو الانفجار الثاني خلال شهر ديسمبر بعد التفجير الانتحاري في مسجد (جاميا)، حيث أصيب عدد كبير من رجال الشرطة. ويقدر عدد القتلى الذين سقطوا جراء التفجيرات الدامية منذ صيف 2007م قرابة 2600 قتيل.
لذلك يعتقد بعض المراقبين السياسيين أن خطة الرئيس أوباما الرامية إلى إرسال (30 ألف مقاتل) إلى أفغانستان ستزيد الضغط على الحكومة الباكستانية والجيش تحديداً في حربه ضد (طالبان باكستان)، بحكم توقع تحرك أفراد (طالبان أفغانستان) إلى الأراضي الباكستانية، وهو ما ألمح إليه أوباما نفسه عندما اعتبر إمكانية النصر في أفغانستان يكون من خلال التعاون القوي مع باكستان وبذل جهود أقوى من جانب الباكستانيين للقضاء على ملاذات المتشددين الطالبيين، ومن هنا تتجه باكستان لنفس مصير أفغانستان.
Kanaan999@hotmail.com