Al Jazirah NewsPaper Friday  04/12/2009 G Issue 13581
الجمعة 17 ذو الحجة 1430   العدد  13581
التشكيليون يعزون في فقيدهم الفنان محمد العمير

 

متابعة - محمد المنيف

فُجِع الوسط التشكيلي يوم الخميس الماضي بوفاة الزميل المبدع فناً والرائع خلقاً، التشكيلي محمد العمير، بعد معاناة مع المرض الذي ألمّ به وأقعده السرير. لقد كان - يرحمه الله - من الفنانين المؤثرين في الساحة بعطائه وبأفقية علاقاته على المستويات المحلية والخليجية والعربية أو في أي مكان يسافر إليه ممثلاً للفن السعودي؛ فكان خير سفير لوطنه ولفنه. أعرف الراحل منذ فترة طويلة عبر حضوره المتميز والفاعل في المعارض وفي مجال الأنشطة والمعارض التشكيلية أو ما يكلَّف به في مجال عمله التعليمي قبل تقاعده، وسعدت برفقته في عدد من المناسبات الرسمية خارج الوطن. كان أيضاً من المعلمين الروَّاد المخلصين في تدريس مادة التربية الفنية حيث أبقت مدرسته الكثير من أعماله في معارض إدارة التعليم، كما كان مؤثراً ومرشداً للموهوبين من طلبته، إضافة إلى ريادته وحضوره ومساهماته في الساحة التشكيلية بالأعمال المتجددة.

وقد تلقت عائلة الزميل الراحل محمد العمير سيلاً من الاتصالات، إضافة إلى حضور عدد كبير من التشكيليين بالرياض للصلاة عليه والسير مع جنازته للمقبرة، كما تلقينا عبر إيميل الصفحة والجوال الكثير من الرسائل التي رغبت في أن تتحدث عن ما يكنونه لهذا الفنان من محبة مقابل ما كان يتعامل به معهم برقي وإيثار لنفسه خدمة للآخرين، مع ما تلقاه التشكيليون فيما بينهم من رسائل يعزون بعضهم البعض فيه، تغمده الله بواسع رحمته وألهم أهله وذويه الصبر والسلوان؛ فقد كانت وفاته في أيام مباركة، والصلاة عليه أيضا في يوم عيد الأضحى، وهذه بإذن الله من بشائر الخير له مع ما تحمله من صبر وقت محنته ومرضه.

مسيرة مشرفة وحضور فاعل

في موضوع سابق تطرقنا فيه عبر الحقيبة التشكيلية بالمجلة الثقافية بجريدة الجزيرة (الخميس الموافق 15، ربيع الأول 1430 العدد 274) إلى ما يتمتع به هذا الفنان - يرحمه الله - من عطاء لا ينضب؛ فمن يزُر مرسم الفنان العمير يمكنه التعرف على مختلف مراحله التي احتفظ لكل منها بعمل توثيقاً لقدراته الإبداعية التي يستعيدها من مخيلة ثرية للواقع والطبيعة والمجتمع، مع ما يقدمه من أعمال لمناسبات وطنية، جامعا بذلك بين مبدأ الفن للفن، ومقدراً رؤية الآخر من خلال أعماله التوثيقية لمظاهر الحضارة أو الواقع البيئي المحيط به. تلقى الفنان على تلك التجارب والمحطات إشادات الكثير من النقاد والمطلعين عليها من الفنانين العرب والأجانب، وكان لي الاستماع إلى بعض منها خلال حضوري معارض للفن السعودي خارج الوطن، كان الفنان العمير مشاركاً فيها، إضافة إلى بعض من تجاربه في النحت التي كشف فيها قدرته على التعامل مع الكتلة في الحجر أو تشكيل الطينة. ولم يتوقف الفنان العمير عند حدود نشاطه الشخصي عبر اللوحة بل واصل خدمته للفن عبر إقامته للورش الفنية بدعم من وزارة الثقافة والإعلام ووكالة الشؤون الثقافية أو من خلال الرئاسة العامة لرعاية الشباب في فترة سابقة مع ما ساهم به مع الجمعية السعودية للفنون التشكيلية، كما أن العمير عضو مؤسس في الجمعية السعودية للفنون التشكيلية وعضو مؤسس لجماعة ألوان، كما أنه حائز العديد من الجوائز وشهادات التقدير ودروع التكريم.

انتماء صادق لواقعه

عُرف الفنان محمد العمير في بداية عطائه باهتمامه بالواقعية التسجيلية لأمرين، أهمهما متطلبات الساحة ومستوى فهم العمل الفني الذي لم يكن فيه الملتقي قادرا على استيعاب الجديد وتقبل الإبداع الحقيقي بما يحمله من قيم فكرية وفلسفية قد لا تظهر بالصورة المعتادة بقدر ما تأتي نتاج وعي الفنان بكيفية توظيف هذا الإبداع للتعبير المبتكر باستخلاص المعنى وتقديمه بأبسط السبل من خلال الإشارة أو التلميح أو الرمز قد لا يعيها إلا من لديه اللغة التي تمكنه من قراءة الفعل التشكيلي.

أما الجانب الآخر في تعامله المبكر مع إبداعه فهو ما جمعه من مكتسباته البصرية من قيم الواقع الجمالية وتوظيفها، مستنبطاً منها أسس التجارب القادمة التي استبق بها الفنان العمير الزمن، متهيئا بها بصرا وبصيرة؛ ليستمر إبداعه في نهج التسجيل والتوثيق لكل ما يراه في الطبيعة؛ فأجاد وأمتع وأبقى في ذاكرة المتابعين له، بما كان يمتلكه من موهبة دعمها بالدراسة في معهد التربية الفنية؛ حيث تخرج منه عام 75م - 95هـ، وعمل معلما لمادة التربية الفنية؛ فأجاد في إقناع الطلبة بجمال المادة وبجذبهم من خلال ما أضفاه على المدرسة من لوحات أضافت بُعدا إعلاميا عن الفن التشكيلي ومعلميه الموهوبينز

هذا النشاط المدفوع برغبة مؤطرة بموهبة تسكن وجدان الفنان العمير أصبح منطلقا للحضور والمنافسة والمساهمة في الساحة، تحقق له بها وضع موقع لقدمه بين صفوف التشكيليين في تلك الفترة، وأخذت أسهمه الإبداعية في تزايد؛ فجعلت منه اسما وفعلا لا يمكن أن يفتقد في أي معرض أو مشاركة رسمية من خلال معارض الرئاسة العامة لرعاية الشباب وجمعية الثقافة والفنون؛ ليواصل هذا النشاط ممثلا للمملكة في العديد من المعارض العربية والدولية وحائزا الجوائز وممتلكا لأسلوب أصبح بمثابة الإمضاء المعترف به مع ما تبع ذلك من تطوير وتجديد.

التجربة.. الخصوصية

لم يتوقف الفنان العمير - يرحمه الله - عن البحث والتجريب بتعامل ذكي احترافي مع منجزه التشكيلي بحميمية وعشق لكل مرحلة سابقة مرَّ بها؛ فأخذ في طبع شخصيته على كل خطوة قادمة وإبداع جديد؛ فهو يخرج من مرحلة إلى أخرى دون التخلي عن روح ورائحة التجربة السابقة؛ فأصبح لديه بالته (حاملة ألوانه) بإشراقها وشفافيتها مهما تنوعت المواضيع أو تعددت، يعكس بها الصورة الحقيقية للوجدان؛ فكسب بها إعجاب الجمهور، ينتقل بالمشاهد للوحاته بين انسياب الخطوط ومرونتها إلى إيقاع راقص يأخذه من أطراف اللوحة إلى أطرافها بإحساس حالم يجعل من السكون أصواتاً ومن الهدوء حركة، يقتنص الشكل من مختزل عقله الباطني ويحيله إلى واقع، وجد في المرأة مرتكزا للعديد من أعماله ممثلا بها الحياة والجمال والحب الإنساني، وأحيانا نجدها تشكل الأرض الخصبة المعطاءةز

وفي لوحات أخرى يلتقط شيئاً من عناصر الواقع يذيبها في أتون معمله الوجداني المفعم بحيوية الشباب الممزوجة بخبرات عمره الفني التي تتجاوز خمسة وثلاثين عاماً بثقافته البصرية التي جمعها من كل مشهد وحدث تشكيلي محلي وعربي وعالمي كان له فيها حضور أو زيارة ليعيدها مرة أخرى بتشكيل وتكوين مختلف لا يخرج عن المألوف وإنما يضيف إلى جمالها جمالاً.

برز في أعماله الأخيرة معالجتها بالحركة المتتابعة للفرشاة بتأسيس مسبق وإضافة ألوان على سطحها ومن ثم إزالة ما يراه يخدم الفكرة؛ فجاءت تلك الأعمال رشيقة مرنة مكَّنت الفنان من طرح العديد من المواضيع دون إخلال، يتلاحم تكوينها وبناؤها بإيقاع متناغم في اللون وحوار بين الكتلة والفراغ بانسجام يضمن للعمل توازنه.

خلاصة تجربة

في كثير من اللقاءات الصحفية أو الحوارات المفتوحة مع الراحل محمد العمير يبقى في ذاكرة مستمعيه الكثير من التأثير.

وقد التقطنا بعضا مما كان يردده ويسعد بأن يتلقاه الآخرون، منها قوله (أؤمن بأن الإنسان لا يأخذ إلا نصيبه من الدنيا) ويقول (على الفنانين أن يعملوا على تقديم الجديد لجمهورهم)، (كفانا استيراد اللوحات الفنية من الخارج، وعلى رجال الأعمال دعم الفنان السعودي)، (الفنان في حاجة إلى التفرغ فكيف له أن يعطي وهو موظف؟)، (ليس هناك أغلى من تقدير الجمهور لجهد ومثابرة الفنان على العطاء)، (زيارة كبريات مدن العالم التي لها الريادة في مجال الفنون أهم داعم لثقافة لفنانين، وهذا دور المسؤولين عن الثقافة)، (أسعى إلى تطوير فني والبحث عن الجديد فيما أقدمه)، (البحث في أسرار اللون وتداخلاته وتأثيره النفسي على المتلقي أكبر همومي في تجربتي الأخيرة)، (لا أحب التقيد أو التوقف عند مدرسة معينة).

رحم الله الفنان العمير الذي ستفقده الساحة كما فقدت مبدعين قبله تركوا فراغا لا يمكن ملؤه بغيرهم، ونحن هنا عبر صفحة الفنون الجميلة بجريدة الجزيرة ننقل تعازي التشكيليين في الساحة إلى أسرة الراحل العمير، داعين الله أن يتغمده بواسع رحمته.




 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد