Al Jazirah NewsPaper Wednesday  02/12/2009 G Issue 13579
الاربعاء 15 ذو الحجة 1430   العدد  13579
قرار الملك.. انتصار للشهداء.. واقتصاص من المقصرين
فضل بن سعد البوعينين

 

بعد أن تقاذف بعض المسؤولين كرة (كارثة سيول جدة) الملتهبة بين أيديهم، وهمَّ البعض في التقليل من شأنها، واعتبارها أمراً عادياً يحدث في (الدول المتقدمة)، وبدأ بعض المسؤولين في تصنيف التعويضات، واستثناء بعض التلفيات منها إمعاناً في التقتير.

وبعد أن استهترت وكالة الأنباء السعودية (واس)، التي انتقدها معالي وزير الإعلام، بأرواح الشهداء وحوَّلت كارثة السيول إلى (مشاهد جميلة تسابق للاستمتاع بها أهل جدة)، وبعد أن تبرأت الأمانة والمسؤولون من المناطق العشوائية، ومشروعات التصريف غير المنجزة، صدع الملك عبدالله بن عبدالعزيز بالحق الأبلج، ورفع سيف المحاسبة، وفتح ملفات الكارثة، ومدّ يده الكريمة الحانية لأسر الشهداء، والمنكوبين معترفاً بتقصير الإدارات الحكومية، ومؤنباً المقصرين، وباكياً على أرواح الشهداء وما أصاب المواطنين، وكذلك يفعل الإمام العادل، والملك الإنسان الذي تسبق مشاعره الجياشة كلماته الحانية، وتتهاوى دموعه رحمة بالضعفاء.

أوضح الملك عبدالله أن تلك الكارثة لم تكن نتاجاً لأعاصير أو فيضانات.. بل نتجت عن (أمطار لا يمكن وصفها بالكارثية، وأن من المؤسف له أن مثل هذه الأمطار بمعدلاتها هذه تسقط بشكل شبه يومي على عديد من الدول المتقدمة وغيرها ومنها ما هو أقل من المملكة في الإمكانات والقدرات ولا ينتج عنها خسائر وأضرار مفجعة على نحو ما شهدناه في محافظة جدة وهو ما آلمنا أشد الألم).. وهذه تمثّل قمة الشفافية من ملك الإنسانية، ومنتهى الاحترام لعقلية المواطنين المصدومين بمستوى الخدمات المقدمة لهم برغم مئات المليارات المنفقة على مشروعات التنمية.

بقدر ما كان قرار الملك عبدالله بن عبدالعزيز مفرحاً للمواطنين جميعاً، وللمتضررين وأسر الشهداء على وجه الخصوص، كان بمثابة الصدمة القاسية للمقصرين الذين اعتقدوا أنهم قادرون على الهروب بفعلتهم بعد أن تسبب إهمالهم في إزهاق أرواح المواطنين.. لا أحد معصوم من الخطأ، ومن يعمل يُخطئ، ويعاود الخطأ، إلا أن استمراء الخطأ وتعمُّده، أو الإمعان في إهمال أداء الأمانة الوظيفية يستدعي دائماً نظام المحاسبة الصارم الذي يعيد المخطئين إلى جادة الصواب، ويكون بمثابة الردع المستقبلي لكل من حاول التهاون في شؤون المواطنين، وأداء الأمانة الوظيفية.

قرار تاريخي بكل ما تعنيه الكلمة أصدره خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز، وهو سابقة مفرحة يمكن أن تؤصِّل لقاعدة أساسية في المحاسبة الوظيفية، وكيفية التعامل مع مصائب الأمة، وتضع حداً للهدر المالي في المشروعات المعطلة، ومخرجات برامج التنمية.. احترام النفس البشرية، والمحافظة عليها، وتعظيم إزهاقها خطأ، أو إهمالاً، أو تعمداً لا يصدر إلا من نفس مؤمنة صادقة تخشى الله وترعى حقوقه في الرعية، في حين تضمن المحاسبة الدائمة حسن الأداء، وتحميل المخطئين جريرة أخطائهم.

تشكيل لجنة لتقصي الحقائق بتنوع وتخصص أعضائها، وإعطائها كامل الصلاحية في (استدعاء أي شخص أو مسؤول كائناً من كان لطلب إفادته أو مساءلته)، يعني ألا أحد فوق القانون، والجميع سواسية في التقاضي وتحمُّل المسؤوليات، وهو منهج السلف، رضوان الله عليهم، فقد حاسب عمر بن الخطاب ابنه عبد الله في تجارته، واستكره أخذه الربح منها، وهو ابن أمير المؤمنين، فقال له رضوان الله عليه: (خذ رأس مالك الذي دفعته في هذه الإبل واجعل الربح في بيت مال المسلمين)، وأقام الحد على ابنه عبد الرحمن بن عمر، بعد حده الأول، حتى قيل إنه هلك في سجنه، بما أصابه من ضربٍ على يدي أبيه الفاروق رضي الله عنه.. وحاسب ولاته على الأمصار، وكتب مالهم قبل توليتهم الولاية، واقتسم معهم أموالهم الخاصة التي اكتسبوها حين الولاية، لظنه أنما اكتسبوها بمظلة السلطان.

قال ابن تيمية، غفر الله له: (إن الله ينصر الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا ينصر الدولة الظالمة ولو كانت مسلمة).. فالعدل أساس الملك، وبه تسود الأمم، وتُؤدى الحقوق، وحق الله أحق بالأداء مما سواه، وما حدث في كارثة سيول مكة فيه من الحقوق الكثير وأولها حقوق الشهداء التي أوشكت على (التمييع) لولا الله، ثم وقفة ملك الإنسانية الحازمة التي انتصرت للحق، وأرواح الشهداء، وأحزان المنكوبين، فأسعدت قلوب المواطنين وطمأنتهم بوقوف الوالد القائد معهم ضد المقصرين، والمتهاونين وكل من سعى في تبرير أعمالهم، أو عمد إلى تمييع الكارثة.

قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ للهِ شُهَدَاءَ بِالقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ).. أشهد أنك قد عدلت فيما أمرت، وأنصفت، واتقيت الله بتبرئك من صنيعة المقصرين، ولا نزكي على الله أحداً.. والله المستعان والهادي إلى سواء السبيل.




 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد